بقلم د. ماجد منيمنة
(اللواء)
يجد المرء نفسه غارقاً في بحار الحزن والأسى وهو يعد هذا الكم الهائل من مخزون المعضلات والمشاكل اليومية في لبنان، وأن من يقف وراءها مستعد للذهاب إلى أقصى حد في معارك في شتى الميادين كتهشيم في هيبة وسيادة الدولة، والتي يفترض أن نتوحد حولها جميعاً، يداً في يد، وجنباً إلى جنب، ضد خلايا الفساد والاستبداد، وبقايا التبعية، النائمة واليقظة التي تعرقل عمل رئاسة الوزراء وتقف حجر عثرة في بناء الجمهورية.
هي مفارقة خطيرة أن يتابع، اللبنانيون ومعهم العالم كله، ما يكابده بعض السياسيين من مرارة المعالجات وأوجاع الصراعات الداخلية، تمزق اللحمة الوطنية الجامعة وتكاد تعصف بالبقية الباقية من وحدة المجتمع اللبناني الذي تتوالد فيه الأزمات من النفايات المبعثرة على الطرقات الى قطع الكهرباء بشكل عشوائي الى ندره مياه الشفة الى الوعود بأزمة رواتب موظفي القطاع العام، ومع ذلك، يعمل بعضهم، عن قصد أو غير قصد، إلى محاولة إعادة إنتاج كل تلك المشاكل لبنانياً، من خلال استقطابات حادثة تشكل وقوداً كفيلاً بإيقاد نيران فتن قد لا تُبقي ولا تذر. ويخطئ من يعتقد أن هذه النار، التي يعمل بها من قبل بعض السياسيين المستزلمين، أنها ستحرق خصومهم فقط، وأنهم سيحققون مكاسب من وراء إشعال فتيلها وإذكاء نارها، فهذه النار تهدد الوطن بأكمله، ولن يستفيد منها أي طرف، لأن الجميع خاسر لا محالة، ما دام الرابح الأكبر هنا هم أعداء الوطن.
كما يفترض أن يساعد السياسيون إخوانهم المواطنين على تجاوز ما حل بهم من محن وفتن ومعاناة، بتقديم الحلول لمشاكلهم وأهمها موضوع النفايات والمياه والكهرباء، من خلال صناعة نموذج للعيش الوطني المشترك، قابل للحياة والعيش الكريم، لا أن ينخرطوا في حروب كلامية وإعلامية وسياسية، يتوزعون فيها إلى أطراف متصارعة، يوظفون فيها أسوأ ما انتهى إليه هؤلاء من مفردات السباب وقواميس الشتائم وفتح أرض معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل تضر بالاقتصاد الوطني وبمصالح المواطنين ما دام تعطيل المؤسسات الرسمية هو سيد الموقف.
هكذا، وفي الوقت الذي راكم فيه لبنان رصيداً مهماً من المثقفين المنتصرين لقضايا الحق والعدل، والذين تجاوز إشعاعهم حدود الوطن، من خلال ما أبلوه ويبلونه من بلاء حسن، في ابتكار الحلول لمختلف معضلات هذه الأمة العربية في أوروبا والولايات المتحدة وأميركا اللاتينية، المتعلقة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمعالجات الاقتصادية، يتجاهل البعض هذه الثروة من النخبة الوطنية، ويستدعي وجوهاً لا تحسن إلا الانخراط في معارك الجاهلية، شعارها المفضل «أنا أو لا أحد»!
وهكذا يسيل مداد حول قضايا ومشاكل مستوردة، كان يفترض أن تسير على ثبات في الكشف عن المشاكل التي تزيد الاعباء الحياتية للمواطن من ضعف في النمو الاقتصادي وتراكم في الدين العام، بدلاً من أن تستأصل خلايا الفساد، والعمل على تأسيس نموذج وطني ديمقراطي يحتضن نعمة الاختلاف وينبذ الفتنة الطائفية والاستقطاب المذهبي. لقد أصبحنا نرصد يوميًا، في مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى صفحات الجرائد الورقية والإلكترونية، أشكالاً من التضخيم والتهويل، لقضية الزبالة، وبطرق ملتوية، لا تخلو من التدليس،تهدد، إذا ما استمرت، لا قدر الله، بعواقب يصعب التحكم في مساراتها المجهولة. فما أن تحدث أي مشكلة اجتماعية أو سياسية، يمكن أن تقع في أحسن العائلات، كما يقال، ويفترض استغلالها فرصة للتفكير والحوار وتبادل النقد البناء، يتم على العكس من ذلك، اتخاذها كمطية للحشد الطائفي، والتشكيك والتخوين، الذي نعتقد أن الوقت قد حان للتخفيف من حدته إلى أقصى حد ممكن، لأن استمراره سيصب في مصلحة القوى الحريصة على صب الزيت في نار الفتنة الحارقة.
إن الأزمات المفتعلة تباعاً هذه الأيام من قطع للكهرباء, حتى أنها طالت تغذية مطار رفيق الحريري الدولي لمدة ربع ساعة وحيث يعتبر هذا الحدث من الأخطر منذ انتهاء الحرب الأهلية ومن قطع للمياه والمعاناة اليومية التي يعيشها المواطن بسببها وتسييس ومذهبة النفايات التي قسمت البلد الى كانتونات للزبالة كله يبين ما ينتظر نخبنا المؤثرة من استحقاقات ثقافية وسياسية واقتصادية، حيث على المثقفين بذل مجهود كبير على طريق مواجهة ثقافة القطيع والأتباع، التي تتغذى من النبذ والإقصاء، القائم على مبدأ «أنت لا تفكر مثلي إذن فأنت عدوي اللدود!» ومن ثم تطاله الاتهامات بالتخوين. كما ينتظر من رجال السياسة أن يتصرفوا بمنطق رجال الدولة، ويركزوا اهتمامهم على الأولويات الوطنية في التحرر والديمقراطية والوحدة الوطنية والعدالة الاجتماعية.
ويبقى مشهدنا العربي، من شرقه إلى غربه، يتميز بسلبية غير مسبوقة من طرف السياسيين، الذين غادروا ساحة النضال الوطني إلى ساحات الاسترزاق على موائد السلطة والمال، فأصبحوا جزءًا من الأزمة المستشرية في كياناتنا الوطنية، عوض أن يكونوا عقول الأمة المبتكرة لحلول لها، كما يعرف حالة تمييع من طرف سياسيين من الدرجة الدنيا، ولا علاقة لهم بالسياسة، بل هم يشكلون جزءًا لا يتجزأ من أمراضه المزمنة والمتعفنة.
أمام هذه الأجواء، لم يبقَ لنا سوى التعويل على أولئك العقلاء، على قلتهم، الذين تنادوا دائماً إلى الكلمة السواء، التي هي أعز ما يطلب عند المواطن وهي العدالة الاجتماعية، والالتفاف حول مشروع الوطن، المتجاوز للزعامة والطائفة والمذهب، لتفادي الذهاب الى المعارك الداخلية والخارجية، التي لا تُبقي ولا تذر والتي لا يستفيد منها إلا أعداء الوطن، مما وجب معه دق ناقوس الخطر، الذي نرفع معه الصوت عالياً قائلين: علينا أن نختار بين العيش سوياً في هذا الوطن الصغير أو الاستسلام لجحيم الفتن الذي سوف يحرق كل جزء من الوطن ويبقي كل ديك على مزبلته صياح!!
________________________
* خبير مالي و محلل اقتصادي
* دكتوراه في المالية الدولية