عند أول ظهور علني للملاح استدعاه فريق عمل الوزير وقالوا له: هل تريد مالاً؟ (هيفا البنا)
واصل ناشطون وناشطات تحرّكاتهم أمس أمام قصر العدل، احتجاجاً على التدخل في القضاء وتوريطه في ممارسات انتقامية، وللمطالبة بتحرير طارق الملاح ورفاقه فوراً. فيما ختم فرع المعلومات التحقيق مع المعتقلين وأفرج عن اثنين منهم ليل أول من أمس، لتُستكمل المهزلة بادعاء النائب العام الاستئنافي القاضي زياد ابو حيدر، على المعتقلين الباقيين طارق الملاح وفراس بو زين الدين بتهم «التحقير، الذم، التظاهر والهدم والتخريب»
حسين مهدي - (الأخبار)
قضاة وجهاز أمني رضخوا لضغوط وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس ومارسوا «الانتقام المقنع». هذا ما يحصل في قضية اعتقال طارق الملاح ورفاقه منذ الأربعاء الماضي، بسبب مشاركتهم في تظاهرة احتجاجية ضد فساد مسؤولي الدولة في ملف إدارة النفايات، وقيامهم بالتعبير عن غضبهم من طمر اللبنانيين بالزبالة عبر إلقاء بعض منها على سيارة درباس.
فبعد أكثر من 48 ساعة من التحقيق مع طارق الملاح ورفاقه، أطلق فرع المعلومات في وقت متأخر من ليل الأربعاء سراح الموقوفين بلال علّاو وإيهاب يزبك، فيما أودع طارق الملاح وفراس بو زين الدين قصر العدل أمس، بعد إحالتهما على النيابة العامة الاستئنافية في بيروت، حيث ادعى النائب العام الاستئنافي القاضي زياد حيدر عليهما بتهم «التحقير، الذم، التظاهر والهدم والتخريب»، علماً بأن «التظاهر» لم يعد «جريمة» يعاقب عليها القانون بسبب تناقضها مع الدستور.
المفارقة التي انكشفت في هذا المسلسل الخطير أن درباس لم يدّع أمام القضاء على الملاح أو أي من المتظاهرين، بل أوعز إلى سائقه بالادعاء، نيابة عن درباس، أمام القضاء ضد الملاح وزين الدين، وهذا لا يمكن إيجاد أي تبرير قانوني له سوى الإمعان في سياسة التدخل بالقضاء وتوظيفه ضد العدالة!
الوكيل القانوني للملاح المحامي نزار صاغية، قال إن أولويته الآن أن يُفرَج عن المعتقلين، وهو تقدم بطلب لذلك، إذ إن التهم الموجهة إلى المعتقلين لا تتخطى عقوبتها السنة، وبالتالي لا مسوّغ قانونياً لأي نوع من التوقيف الاحتياطي، بحسب المادة 106 من أصول المحاكمات الجزائية. إلا أن القاضي حيدر أصرّ على مواصلة الاعتقال، متذرعاً بعدم قدرة المدّعي على الرد على طلب إخلاء السبيل. إذ قضت المسرحية أن يدون سائق درباس عنوان منزل درباس عنواناً له، مع رقم هاتفه، أي هاتف درباس نفسه. ولدى محاولة المحامي صاغية تبليغ المدّعي، أي السائق، قيل له إنه في طرابلس، وإنه لن يكون قادراً على التبلّغ قبل نهار الاثنين عندما يعود إلى عمله في وزارة الشؤون. لذا قد يبقى الملاح وبو زين الدين موقوفين حتى بداية الأسبوع، علماً أنه جرى تحويلهما إلى القاضي المنفرد الجزائي الذي حدد جلسة في 4 آب للاستماع إلى أقوالهم.
يلخّص صاغية، وهو المدير التنفيذي لجمعية المفكرة القانونية، ما يجري اليوم بأنه تعطيل للعدالة، «تهرب السائق من التبليغ، وادعاء درباس عبر سائقه على الموقوفين، والتدخل في عمل القضاء، مخالفة القوانين عبر ممارسات تعسفية كمنع الملاح من التواصل مع محاميه وغيرها من الأمور، لا يمكن إلا أن ينصف في هذه الخانة». ويشير صاغية إلى تهمة «التظاهر» بالتحديد، إذ إن هذه المادة القانونية أثارت جدلاً واسعاً في التسعينيات، ولم تطبق من حينها لما تشكله من انتهاك لحرية التظاهر والتعبير.
لا تنحصر القضية في هذه الجوانب، بل إن رواية بلال علاو وإيهاب يزبك لـ»الأخبار» عمّا تعرضا له خلال التحقيق من انتهاكات، يعيد طرح قضية التعذيب والمسّ بالكرامة، إذ طُلب منهم التعري معاً لتفتيشهم، فضلاً عن تلقيهم السباب والشتم أثناء التحقيق. كذلك طالب أحد الموقوفين المصابين بالربو بنقله من غرفة الاحتجاز المليئة بالروائح الكريهة، «ريحة الغرفة صنّة وما في هوا» يقول الموقوف، إلا أن طلبه رفض مرفقاً بعبارات من نوع «خليك انقبر هون».
أسئلة التحقيق كانت متركزة أساساً على محاولة توريط الملاح وتلبيسه تهمة، عبر الأسئلة المتكررة عن صلة الموقوفين بالملاح، مصرين على معرفة «قائد» الحراك، في محاولة للوصول إلى استنتاج مفاده بأن الملاح هو من تعمّد ونظّم الاعتداء على سيارة الوزير (علماً أنها قد مرّت صدفة في المكان). وقد وصل الأمر بالمحققين إلى القول للموقوفين إن «الوزير قد توفي نتيجة هذا الاعتداء، لذا عليكم الاعتراف بمن ورطكم».
اللافت في ثاني يوم من التحقيقات حضور كل من مرافق الوزير وسائق السيارة إلى فرع المعلومات ليتعرفا إلى الموقوفين. والملاحظة هنا تركيزهم على الملاح، حيث قال له المرافق: «يا شاطر شو بك خيفان هون»، فيما يقول له أحد عناصر الفرع: «شكلك مطول وقصتك عويصة»، خاصة أن الملاح قد منع من التواصل مع محاميه، فيما سمح لعلاو ويزبك بالتواصل مع أهاليهم.
قبل إطلاق سراحهما، أُجبر الموقوفان على توقيع أوراق لم يعرفا مضمونها. وتلفت المحامية نرمين سباعي إلى أن هذه الأوراق يمكن الطعن فيها، خاصة أنها وُقِّعَت تحت التخويف والإكراه. فيما يقول كل من يزبك وعلاو لـ»الأخبار» إن هذه الأوراق «يبلوها ويشربو ميتها»، وأعلنا استمرارهما في الاعتصام والنزول إلى الشارع، وقال الملاح لرفاقه حين اجتمع الأربعة في جلسة تحقيق واحدة: «ما تخافو الناس برّا كلها معنا».
الوزير درباس محامٍ، وهو يعلم أن سائقه لا يمكنه أن يدعي نيابة عنه، إن لم يكن درباس قد طلب منه ذلك. إلا أن درباس استمر في ممارسة «الانتقام» من الملاح، وصرّح من السرايا الحكومية بأنه لم يدّع على أحد، وأن «لا وجود له في هذا الملف»، علماً أنه أعلن لـ»النهار» تقدمه بشكوى ضد الملاح شخصياً وآخرين كانوا في المكان، معلناً أنه مستمر بالدعوى و»ما حصل مصور في شريط فيديو، والمعتدون معروفون»، مضيفاً أنه «يعلم كيف يأخذ حقه بنفسه».
أكثر ما يثير السخرية هو تصريح درباس لأحد المواقع الإخبارية بأنه «لا يعرف الملاح شخصياً»، علماً بأن الأخير قد سبق أن لجأ إليه لينصفه في قضية اغتصابه في دار الأيتام الاسلامية لسنوات، ولحماية باقي الأطفال في الدار، ومن وقتها توالت أحداث كثيرة يبدو أنها راسخة في ذهن درباس الذي تعرف سريعاً إلى الملاح حين رشق سيارته بالنفايات.
يستمر درباس في إنكار حادثة الاغتصاب داخل الدار، رغم اعتراف الدار نفسها، إذ أدلت مديرة «بدائل» زينة علوش، عبر صفحتها على فايسبوك بحقائق جديدة. تروي أنه «عند أول ظهور علني للملاح استدعاه فريق عمل الوزير وقالوا له: هل تريد مالاً؟ كم تريد؟ 10 آلاف؟ بالنسبة إلى شاب مثل طارق مبلغ كهذا كبير جداً... لكن الملاح رفض، قائلاً: أريد حقي من الدار… حينها توجهنا برسائل رسمية للمدير العام لدار الأيتام الإسلامية ووزير الشؤون الاجتماعية للتعاون تقنياً لحل القضية بما يتضمن ذلك تعويضاً لطارق وإصلاح نوعية الرعاية، ولم نقابل إلا بالصمت. علماً بأن طارق يعاني من مشاكل صحية، إضافة إلى عدم تمكنه من متابعة دراسته كمعظم أطفال دار الأيتام الإسلامية بسبب تعرضه المتكرر للاغتصاب الذي دام 5 سنوات». بعد ذلك، تتابع علوش، توكّل المحامي نزار صاغية لمقاضاة الوزارة بصفتها الإشرافية على الدار، طالباً تعويضاً بمبلغ 200 مليون ليرة. «حينها جاءنا الرد الشهير بستر العورات والتلطي خلف الطائفة، وبعد فترة اتصل محامي الدار بطارق عارضاً عليه مبلغ 100 مليون ليرة كتسوية، على أن يقبضها بالسر ويتنازل عن القضية وأشياء أخرى. بعد مشاورات مطولة توافقنا مع طارق على أن يقبل التسوية، على أن تكون علنية، حينها رفض محامي الدار طلب طارق». تختم علوش ما أوردته على أنه «دليل حتمي على أن الوزير سقط في وحول ملف شائك فتخلى عن مسؤوليته كرئيس للمجلس الأعلى للطفولة حامي حقوق الأطفال، واختار الاحتماء بالطائفة ومؤسساتها العريقة، علماً بأن عرض التسوية هو إقرار بحصول الانتهاك وأن كل القوانين العالمية والمعايير الدولية تؤكد مسؤولية مؤسسة الرعاية حين حصول انتهاكات مثيلة. ونذكر أن طارق لم يكن الضحية الوحيدة، فبوحه شجع العديد من الضحايا على البوح، والأمر لا يقتصر على مؤسسة واحدة».
يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر | Husseinmehdy@