لمياء عاصي - (البناء)
ستنتهي هذه الحرب القذرة يوماً، وسيكتشف كلّ أبناء الشعب السوري… أنهم الخاسرون الوحيدون، من مجريات هذه الحرب التي تدور رحاها فوق أراضيهم، ويعكس حجم الحقد والدمار الشامل المطلوب لبلدهم، مستوى الدمار الذي يضمن عجزها عن النهوض لعشرات السنوات المقبلة… حيث ستدور في حلقة مفرغة أساسها الفاقة والبؤس، اللذان تتعمّق شدّتهما مع مرور كلّ يوم على هذه الأزمة، ومن المعروف أنّ خطط النهوض والتعافي بعد الحروب لن تكون سهلة ولا بديهية، ما يطرح أسئلة جوهرية، منها: كيف سيتمّ النهوض الاقتصادي، من آثار هذه الحرب المدمّرة بعد كلّ هذا الواقع المرير؟ ألا يعتبر الفقر والدمار سببين كافيين للدوران في مستنقع الفقر لفترة طويلة؟ هل يمكن وخلال فترة معقولة الخروج من الواقع الاقتصادي الصعب الذي يحيط بنا كسوريين؟ هل يمكن الانتظار حتى نهاية الأزمة، لبدء أيّ خطوات أو مبادرات اقتصادية، من شأنها أن تنعش الاقتصاد السوري؟
لفترات طويلة، شكلت الطبقة الوسطى السورية، النسبة الغالبة من المجتمع، وقد تغيّر هذا الواقع خلال العقد الماضي، وخصوصاً مع بداية تطبيق اقتصاد السوق الاجتماعي عام 2005، ثم تأتي الحرب عام 2011 لتفاقم الوضع السيّئ للناس خلال السنوات الأربع الماضية، لينزلق معظم السوريين إلى حالة من الفقر والبؤس، وقد شكل كلّ من النهج الاقتصادي غير المتكامل والحرب، سببين جوهريين لهذا الواقع، في ظلّ غياب المؤسسة الحكومية القادرة على ابتكار حلول حقيقية وإبداعية، ولم يشعر الشارع، سوى بحلول ترقيعية لا تقارب جوهر المشاكل بل تزيدها سوءاً في كثير من الأحيان.
الأمثلة على تأثير القرارات الحكومية في المستوى الاقتصادي كثيرة ومعروفة للجميع، أولها سعر صرف الليرة، حيث تناقصت من سعر لا يتجاوز الـ47 ل.س للدولار الواحد في بدايات 2011، أي قبل الأزمة، إلى ما يزيد عن الـ230 ل.س مقابل الدولار الواحد، هذا الانخفاض الكبير في سعر الليرة السورية، أفقد الناس أكثر من نصف قدرتهم الشرائية وأوقعهم في براثن الفقر والحاجة، يضاف إلى ذلك، ما حدث جراء رفع الدعم عن المشتقات البترولية، وما سبّبه ارتفاع أسعار حوامل الطاقة وعدم انتظام عملية التزويد بها من آثار سلبية على الصناعة والزراعة وما يمثله هذان القطاعان بالنسبة إلى الإنتاج المحلي، الذي قد يؤدّي إلى انكماش جديد في الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي انخفاض تلقائي لحصة الفرد من هذا الناتج.
بات من نافل القول، الحديث عن النسب العالية للفقر في سورية، والتي تجاوزت الـ70 في المئة من مجموع الناس، وفي هذا الإطار يذكر الخبراء الاقتصاديون، أهمّ العوامل التي تجعل الدول عالقة في فخ أو مصيدة الفقر. ومنها:
ضعف البنى التحتية: وخصوصاً الطرق والمرافئ ومنشآت توليد وتوزيع الكهرباء وغيرها.
مستوى الكوادر البشرية، من حيث التعليم والصحة، حيث يعتبر مؤشر تنمية وتطوير الكوادر البشرية، من أهمّ مؤشرات النهوض الاقتصادي.
تناقص وتآكل القيمة الشرائية للعملة المحلية.
انتشار الفساد، والتفاوت الشديد بين الناس، في الدخول والثروات.
النزاعات المسلحة وانخفاض مستوى الأمان في البلد.
معدل العجز المالي المرتفع، في الموازنة العامة للدولة، وضعف الإنفاق العام الناجم عن تبني موازنات تقشفية تؤدّي في مضمونها إلى ارتفاع معدلات البطالة.
ضعف الثقة بالاقتصاد المحلي، وخصوصاً ما يتعلق بسعر الصرف واستقرار القدرة الشرائية للمواطنين واستقرار التشريعات والأمن في البلد.
الفقر نفسه، يعمل كسبب جوهري يؤدّي إلى خلق بيئة تزيد الفقر عمقاً وانتشاراً.
إنّ النظر إلى العوامل السابقة التي خلقتها الحرب في البيئة السورية كشيء مسلّم به أو التعاطي معه بالطرق البيروقراطية المعروفة، هو أمر خطير ينذر باستمرار هذا الوضع لسنوات طويلة، وتحوّله إلى حلقة مفرغة نبقى ندور فيها، وربما هذا هو الهدف الرئيسي، لمن خططوا ونفذوا هذه الحرب المدمّرة.
لمناقشة الحلول الممكنة، وإحداث فرق باتجاه تجسير فجوة الفقر من جهة وإعادة إحياء الطبقة المتوسطة من جهة أخرى، لا بدّ من حدوث تغيير جذري في طريقة اتخاذ القرار الاقتصادي الحكومي، واتباع خطوات واضحة لإصلاح السياسات الاقتصادية مبنية على الأسس التالية:
أولاً: الجرأة والشفافية في اتخاذ القرارات المدروسة جيداً، ولو كانت صعبة ومؤلمة.
ثانياً: أن تحلّ المؤسسة بديلاً من الفرد، بأن يكون واضع السياسات ومتخذ القرار في المؤسسات مجلس إدارة تنفيذي.
ثالثاً: المرحلة التنفيذية للقرارات يجب أن تكون مرتكزة إلى أنظمة حاسوبية، وليس على مزاج الموظفين، وهي الطريقة الوحيدة، لتحقيق المساواة بين المواطنين أمام الفرص الاقتصادية في البلد.
الجرأة والشفافية، وهي النقطة الأولى: علينا أن ننطلق من فكرة، أنه لا بدّ من إيجاد حلول للمشاكل، والابتعاد من الترحيل والتأجيل، فقد استنبط البشر من تجاربهم قاعدة تقول، إنّ الزمن يختار دائماً أسهل الحلول ولكن الأكثرها كلفة، مثلاً، عدم البدء بحلّ مشكلة المؤسسات المملوكة للدولة وخصوصاً الخاسرة والمتوقفة منذ زمن والتي تسبّب نزيفاً مستمراً للخزينة العامة للدولة، بسبب عدم الجرأة في اتخاذ حلّ ما، والتعويل على الزمن، يجعلنا الآن جميعاً ندفع كلفة النزيف والهدر في موارد الدولة، ومثل ذلك فعلنا مع مشتقات الطاقة وغيرها من القضايا الشائكة الكثيرة والمعلقة.
النقطة الثانية، المتعلقة بحلول المؤسسة بدلاً من الفرد، إنّ الميل إلى العمل الجماعي ضمن إطار مؤسّساتي، يخفف من احتمالات الوقوع في الخطأ، والتعرّض للضغوط المختلفة، سواء من قبل المنتفعين والمتضرّرين مباشرة من القرار أو من قبل الرأي العام، المحابي للقرارات الشعبوية التي لها محاذير كثيرة على المديين المتوسط والطويل.
النقطة الثالثة، المرحلة التنفيذية: وتتلخص بكفاءة الإجراءات، إذ لا بدّ من قيام المؤسسة بإدماج الإجراءات لديها في منظومة عمل حاسوبية، بعيداً من المزاج الشخصي للموظف، لتكون الفرص الاقتصادية متاحة أمام جميع الأفراد بالدرجة نفسها، مثلاً: أن يكون قرار أو عملية إجرائية مجموعة من الشروط، والأوراق المطلوبة، وتنطبق على أيّ متعامل مع النظام الحاسوبي من دون تمييز، ما عدا ذلك، فإنّ الطريقة الانتقائية المعتمدة على الفساد ومحاباة البعض هي السائدة.
أخيراً، إنّ النقطة الجوهرية في موضوع التعافي الاقتصادي، هي أنّ الجهود كافة من كلّ مكوّنات المجتمع يجب أن تبذل، من أجل منع الانزلاق إلى الفقر المدقع، لأنه كلما اشتدّ الفقر عمقاً وانتشاراً، ازدادت صعوبة النهوض نحو تنمية اقتصادية، إنّ موضوع التمويل والاستثمار للخروج قاع البئر الاقتصادي أساسياً، وضعف الاستثمارات في كلّ المجالات، يؤدّي إلى ارتفاع معدل البطالة ولاحقاً إلى الهجرة لجيل الشباب ما يزيد الفقر والبؤس، هذا ما يسمى بـ فخ الفقر Poverty trap ، بحسب الاقتصادي العالمي جيفري ساكس في كتابه «نهاية الفقر» والذي يعدّد فيه أفخاخ الفقر وسبل الخروج منها. المخرج الوحيد الذي يبدو متاحاً هو الاعتماد على موارد البلد وأصولها المملوكة للدولة من جهة، واستثمارات المغتربين السوريين في الخارج من جهة أخرى، وهذا يعود بنا، إلى النقاط الثلاث المرتكزة إلى الشفافية ودور المؤسسة وكفاءة الإجراءات، إذا لا بدّ من تغيير منهجي وجذري في وضع السياسات الاقتصادية، ولكن أهمّ عوامل النهوض، أن تكون المؤسسة هي قائد العمل الاقتصادي وليس الفرد.