عدنان الحاج - السفير
تواجه الدولة ومعها مجلس النواب أعباء جديدة في التوفيق بين إيجاد مصادر تمويل «سلسلة الرتب والرواتب» من إيرادات ملحوظة لتمويل الموازنة وعجزها. أما الأعباء على الاقتصاد فتدرس بالسياسة أكثر منها في الاقتصاد نتيجة غياب رجال الدولة عموما، واستبدالهم بـ«رجال النكايات»، ما يهدد المواطن بالتضخم والمؤسسات بصرف الموظفين والعمال، تلافياً لأعباء الضرائب الجديدة أو المستجدة.
كل هذا يأتي في سنة استحقاقات رئاسية، وانقسامات داخلية وتصاعد التطورات الإقليمية. مجموعة من التناقضات المالية والاجتماعية خلّفتها التشريعات النيابية التي ستزيد الأعباء على المالية العامة والاقتصاد، وتزيد من هجرة الرساميل، بما فيها الودائع المصرفية التي تمول احتياجات القطاعين العام (حوالي 37 مليار دولار) والخاص (بحوالي 47 مليار دولار). يحصل ذلك من دون تحمل عناء التقريب في سبل المعالجة المالية أولاً، والإدارية ثانياً والإنتاجية ثالثاً.
هذه الوقائع ستزداد صعوبة مع الخطوة الأولى التي ستخطوها الدولة على طريق إنجاز الموازنة العامة للعام 2014، وهو أمر لن يكون في المتناول قبل إقرار «السلسلة» أو بعدها.
فسياسة تفريخ النفقات على طريقة تفريخ النقابات التي ضربت فعالية الحركة النقابية، وشرذمت قدرات الاتحادات العمالية، بدأت تطرق باب زيادة التشرذم والانقسامات بين العاملين في القطاعين العام والخاص. كما بدأت تزيد الشرخ بين هيئات المجتمع المدني من عمّال وموظفين في القطاعين العام والخاص، إضافة إلى وضع الهيئات الاقتصادي والقطاع المصرفي بمواجهة مطالب الموظفين. لقد نجحت سياسة الارتجال في القرارات المالية والاجتماعية في زيادة الانقسامات داخل البلاد حول المطالب العمّالية والاجتماعية المحق منها وغير المحق.
إشكالية إبعاد شبح التضخم
على سبيل التناقض الكبير، نبدأ بالإشكال الأول في حال تم التوصل إلى إقرار «السلسلة» في الهيئة العامة كاملة أو منقوصة، مقسطة أو مدفوعة مرة واحدة. وفي جميع الأحوال، لن يستطيع عباقرة المال والاقتصاد إبعاد شبح التضخم الذي سيلتهم ما تبقى من القيمة الشرائية من جهة، وسيهدد القيمة الشرائية للتعويضات في ظل التردي المالي للخزينة الذي ينمو كثيراً نتيجة غياب الإحصاء الدقيق للتبعات والكلفة.
1- التضارب الأول ينبع من موضوع الصندوق المالي الخاص بمعالجة قانون الايجارات الذي سيُنشأ لتسديد البدلات المرتفعة أو فروقات زيادات بدلات الإيجار عن المستأجرين العاجزين عن تحمل الزيادات للمسكن في ضوء تطور الزيادة بنسبة بين 15 في المئة و20 في المئة سنوياً لمدة 6 سنوات. السؤال هنا: من أين ستمول وزارة المال هذا الصندوق في ظل العجز المالي، وضيق مصادر التمويل في وجه الخزينة وتراجع النمو الاقتصادي؟
2- التضارب الآخر والمخاطر الأخرى والمتعددة تكمن في بيت القصيد الأساسي، كيف تمول الموازنة للعام 2014 مع تزايد النفقات العامة في حال إقرار الموازنة بموجب أرقام العام 2013، حيث بلغ العجز 6150 مليار ليرة قد يضاف إليها حوالي 3200 مليار ليرة كلفة «السلسلة» في حال إقرارها بشكلها الراهن وبواسطة مصادر تمويل الايرادات التي كانت محددة في أكثرها لتمويل موازنة العام 2014 وليس لتمويل «سلسلة الرتب والرواتب»؟
عجز الكهرباء بين المقدّر والمحقق
3- التضارب الأكثر خطورة يكمن في اختلاف التقديرات لعجز كهرباء لبنان بين تقديرات وزارة المال للموازنة العامة، وموازنة «مؤسسة كهرباء لبنان»، حيث تقدر الأولى كلفة عجز الكهرباء بحوالي 2700 مليار ليرة كدعم في الموازنة العامة، بينما تقدر الكهرباء عجزها بحوالي 3900 مليار ليرة نتيجة زيادة الموازنة إلى حوالي 5514 مليار ليرة منها حوالي 4400 مليار ليرة ثمن محروقات وشراء طاقة. وهذه الكلفة ارتفعت نتيجة ارتفاع كلفة استئجار البواخر، وأعمال الصيانة للمعامل خلال الفترات الراهنة والمقبلة.
هذا مع إمكانية زيادة تعريفة الكهرباء على فترات تغذية كانت وما زالت وستبقى موضوع شكاوى في قلة التغذية. فمن أين سيأتي الفارق المقدر بحوالي 1200 إلى 1300 مليار ليرة لتغطية عجز الكهرباء بين المتوقع والمقدر والمحقق فعلاً؟
4- التضارب الأكبر يكمن في تقديرات الإيرادات الجديدة، حيث لم يسبق للدولة أو للمجلس النيابي أن وافق على أرقام جاءت مطابقة للواقع، حيث كانت تأتي دائماً أقل من المتوقع، وفي ظل نشاط اقتصادي كان ينمو 7.5 في المئة، فكيف الحال مع واقع تراجع النمو الاقتصادي إلى ما دون 1.5 في المئة؟ فيما يرتفع الإنفاق بأكثر من 5 إلى 7 في المئة، ويزيد العجز والدين العام بأكثر من 10 في المئة. إشارة إلى أن عائدات الدولة خلال العام 2013 تراجعت في بعض البنود 4.5 في المئة عن العام 2012، فكيف ستكون إمكانية تأمين المصادر في ظل تراجع كل النشاطات السياحية والتجارية والصناعية التي خسرت حوالي 38 في المئة من صادراتها في الفصل الأول من العام 2014 مقارنة مع الفترة ذاتها من العام 2013، وهو كان عاما سيئاً عموما؟
5- بالنسبة إلى القطاع المصرفي موضوع الاحتجاج الحالي على الضرائب لتمويل «السلسلة»، فإنه ينبع من جملة أمور أساسية يمكن التذكير بها في ما خص انطلاقة العام 2014 التي تشهد المزيد من الجمود، وتراجع المؤشرات، وارتفاع عجز الخزينة وصعوبة تغطية احتياجات الدولة للعام 2014 في ضوء الكلفة الكبيرة للسلسلة من جهة، والضرائب المفروضة على بعض الخدمات التي ستنعكس زيادة على طالبي القروض في ظل نمو الديون المشكوك بتحصيلها في القطاع الخاص والتي تفوق 3.5 مليارات دولار مع تزايد التخلف عن السداد، وارتفاع كلفة الاستدانة في ظل تزايد الخاطر. يضاف إلى ذلك مطالبات المصارف بإصلاحات إدارية ومالية لم تستطع الدولة الالتزام بحدها الأدنى. ولا بد هنا من التذكير ببعض النتائج المصرفية من ضمن تراجع الكثير من المؤشرات التي تضرب النمو الاقتصادي، وتحول دون تعزيز إيرادات الخزينة من دون ضرائب جديدة كلها على المستهلك، مهما كان نوعها وتم التشاطر على تغليفها غير المقنع.
تراجع نمو التسليفات حوالي % 99
- أولاً النشاط المصرفي كان من بين القطاعات الأكثر تأثراً بالتطورات الاقليمية والمحلية مع انطلاقة العام 2014، حيث بلغت زيادة الموجودات حوالي 1.1 مليار دولار مقابل زيادة قدرها حوالي 2.1 مليار دولار في الفترة ذاتها من العام الماضي أي بتراجع نمو الموجودات حوالي 43.1 في المئة في شهرين. كذلك على صعيد الودائع فقد شهدت تراجعاً في نموها بشكل ملحوظ بلغ حوالي 496 مليون دولار مقابل زيادة للفترة ذاتها من العام الماضي بحوالي 1303 ملايين دولار بنسبة تراجع بلغت حوالي 138 في المئة.
- كذلك التسليفات، فقد تراجع نموها بحوالي 99 في المئة مقارنة مع الفترة ذاتها من العام 2013. فقد بلغت قيمة التسليفات للقطاعات الاقتصادية خلال الشهرين الأولين من العام 2014 حوالي 5 ملايين دولار فقط مقابل حوالي 497 مليون دولار للفترة ذاتها من العام 2013. هذا مؤشر على تراجع النشاط الاقتصادي والتجاري، وعدم إقبال المؤسسات على الاستدانة تخوفاً من التردي والوضع الأمني. هذا على الرغم من الحوافز التشجيعية والتسهيلات التي خلقها مصرف لبنان لتنشيط النمو عن طريق التسليف.
حركة السياحة والصادرات والاستثمارات
أما الحركة السياحية التي واصلت تراجعها بحوالي 14 في المئة، مع تراجع الصادرات اللبنانية بأكثر من 38 في المئة، وحركة الاستثمارات الخارجية بحوالي 60 في المئة مقارنة مع العام 2013، فقد قلصت عناصر النمو الاقتصادي، وضربت إمكانية تكبير عائدات الدولة من خلال توسيع النشاط وزيادة مردود القطاعات. هذا مع العلم أن الدين العام زاد أكثر من 10.3 في المئة خلال الشهرين الأولين من السنة مقارنة مع الفترة ذاتها من العام 2013.
هذه النتائج السلبية انعكست انعكاسا كبيرا على إمكانية تقدير زيادة الإيرادات للخزينة التي تمول من خلالها الموازنة أولاً والسلسلة ثانياً. فكيف يمكن أن تستخدم وتقدر العائدات نفسها لتقليص عجز الموازنة وتغطية نفقات السلسلة؟
في المحصلة أن القطاعات المتخوفة من نتائج السلسلة المالية ومخاطرها توازي أو تفوق عدد الأشخاص المستفيدين منها، على الرغم من أحقية بعض والموظفين في الادارات، من دون الحديث عن المطالبات الأخرى الآتية على الطريق، ولم تشملها السلسلة، و«الحبل على الجرار»، على اعتبار أن مصادر العجز المـالي تـعددت، ولم تلحـقها مـصادر التمويل في ظل عجوزات خزينـة دائمة النمـو، وتراجع الإيرادات وتزايد النفقات في قطاعات مهددة بالتوقف والشلل قبل استحقاق مطالب عمال وأجراء القطاع الخاص، وهي أزمة مقبلة لا محـالة، نتيجة التضخم وتراجع القدرة الشرائية للأجور وتراجع فرص العمل والتقديمات.