بقلم د. ماجد منيمنة - اللواء
«القشة التي قصمت ظهر البعير», هو مثل عربي يشير إلى حدث صغير يحدث أثراً كبيراً معنوياً لأنه يأتي بعد تراكم كثير من الأفعال السلبية. وهذا التشبيه للبعير الذي يُحمَّل الأحمال الثقيلة حتى أنه لم يعد يحتمل شيئاً آخر، خاصة حين تضع فوقه قشة صغيرة فينقصم ظهره ليقع أرضاً وهو لا يقوى على الحراك. ظاهرياً هذا بسبب القشة، ولكن حقيقةً هو بسبب عدم مقدرته على تحمل كل تلك الأعباء المتراكمة.
هذه هي صورة واضحة لإقتصادنا الوطني, الذي سوف يقع أرضاً في حال تحميله أوزاراً مالية جديدة. فعلينا أن نستوعب أن للتجاذب السياسي الماضي والحاضر، وللأزمة المتصاعدة في سوريا الأثر البالغ في عرقلة النمو الإقتصادي الوطني. ولا يخفى على أحد أن تراجع حركتي الترانزيت والسياحة، وتراجع التوظيفات والإستثمارات، وإنشغال الدولة في حل الأزمات العسكرية والتوسع في تأمين الإحتياجات الإجتماعية والأعباء المالية، كله أدى إلى تقلص فرص تزايد النمو الإقتصادي, لتأتي معها مطالبة الهيئات النقابية والعمالية بتمويل سلسلة الرتب والرواتب والتي سوف تكبد خزينة الدولة ملياري دولار أميركي وزيادة على إنفاق الدولة من الخزينة تفوق 121%. قد تكون الإعتصامات والإضرابات والمطالبات محقة ولكن ليس بتلك الأوقات العصيبة التي يعيشها إقتصادنا الوطني.
أضف إلى ذلك إن ما تركته الأزمة في سوريا من إنعكاسات حرجة على الصعيدين الإقتصادي والأمني لا سيما أن سوريا هي المنفذ البري الوحيد المتاح للبنان، قد أدى إلى تراجع حركة الترانزيت, ناهيك عن التدفق والنزوح السوري إلى داخل الحدود اللبنانية الذي يكبد الإقتصاد الوطني أعباء باتت تفوق قدرة لبنان على تحمّل تداعياتها الإقتصادية الإجتماعية والأمنية. كل هذا يرهق خزينة الدولة وإقتصادها. ومن المتوقع أن يستمر هذان العاملان بالتأثير سلباً في سير النمو لفترة غير قليلة بسبب عدم الإستقرار الأمني في المنطقة. إن تباطؤ النمو جراء ضعف الأداء الإقتصادي مع تراجع في الأوضاع الأمنية والزيادة الكبيرة في الإستهلاك الحكومي كله أدى إلى تراجع في النمو بينما بقي الإستهلاك الخاص ضعيفاً بسبب الأوضاع الأمنية غير المستقرة. أما من جانب العرض، فالتباطؤ الحاد في قطاع الخدمات، وبالأخص في مجال السياحة، كله كان له الأثر الأكبر في تراجع معدلات النمو. وفي حال حصل تحسن في الأوضاع السياسية والأمنية، فأن التوقعات تشير أنه ممكن أن يسجل النمو إرتفاعاً ليبلغ 2.3 في المائة. بيد أن العوائق في آفاق النمو ما تزال كبيرة، وما زال إتجاه النمو مثقلاً بالمخاطر ويميل نحو الإنحدار السلبي.
إن التوسع المالي الحاد الذي شهده الإقتصاد اللبناني في العام 2013 قد خلق تحديات كبيرة لا سيما في سياق الوعود المتعلقة بزيادة رواتب موظفي القطاع العام. فقد بلغ حجم التوسع المالي، الذي يتم قياسه عبر التغيير الحاصل في العجز الأساسي لموازنة الحكومة، نسبة مقلقة قدرت بنحو 5.4 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي. أما العجز المالي الإجمالي فقد بلغ 10.6 في المائة من الناتج المحلي. أكثر من ثلث العجز ناتج من الإنخفاض الحاد في الإيرادات، ويعود ذلك جزئياً الى الإعفاء الضريبي على القيمة المضافة لمادة المازوت والطحين. وبالنسبة للجزء المتبقي من العجز فهو ناتج من الإرتفاع في حجم النفقات على الأجور والرواتب وذلك بعد التعديل الملحوظ الحاصل في مخصصات كلفة المعيشة والتحويلات إلى شركة كهرباء لبنان التي ترزح تحت وطأة عجز يتجاوز الملياري دولار أميركي. وقد أدى التباطؤ في النمو والإرتفاع في العجز إلى إتجاه إنحداري لنسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، والتي بلغت 164 في المائة في نهاية العام 2013.
بيد أن المصرف المركزي قد حافظ على حجم إحتياط النقد الأجنبي على مستوى مرتفع، حيث أنه إستمر بتغطية فروقات الواردات وفي أحلك الظروف. أما العجز التجاري فإستمر في الإنكماش في ظل تراجع النشاط الإقتصادي، ولو على وتيرة أبطأ مما كان متوقعاً، وذلك بسبب تداعيات الأزمة السورية. كما أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عرض خلال جلسة اللجان المشتركة مخاطر تمويل سلسلة الرتب والرواتب من دون إيجاد الإيرادات المناسبة وقد إقترح عددا من الحلول من ضمنها تجزئة السلسلة على 5 سنوات, حتى لا يكون هنالك تأثير مباشر على الإقتصاد وأن لا يطال تخفيض التصنيف الإئتماني لبنان.
أما العامل الأهم فهو التراجع في الوضع الأمني الناتج عن تداعيات الأزمة السورية والتي تمس قلب النسيج الإجتماعي اللبناني. فإن عدم الإستقرار يؤثر سلباً في ثقة المستثمر والمستهلك على حد سواء، كما يؤثر بشكل مباشر في الممرات التجارية. أما قطاع السياحة فهو الخاسر الأكبر، بينما أثبت قطاع العقارات وقطاع المصارف قدرة على الصمود في وجه الأزمة. بالإضافة، الضغوط الناتجة عن التضخم تستمر في الإرتفاع، ذلك يعود جزئياً إلى أن الصناعة اللبنانية لم تعد أقل كلفة من السلع المستوردة. كما أدى تدفق اللاجئين إلى المزيد من الضغوط على فرص العمل والتشغيل ومستوى الأجور مما يخلق تنافساً يحد من فرص العمل، إضافة الى المزاحمة في الحصول على الخدمات العامة وبالتالي إلى تلاشي الإستقرار الإقتصادي.
لذلك هناك ضرورة ملحة لرسم السياسات المناسبة لمواجهة هذه الصعوبات والحد من تداعيات الأزمة السورية على لبنان والطلب من المجتمع الدولي مساعدة الحكومة اللبنانية والدولة المضيفة بهدف تقليص المخاطر والتصدي للتحديات التنموية التي بدأت تتضاعف. وبناء على هذه المعطيات، على المجتمع الدولي أن يتحرك بشكل طارئ لدعم لبنان ومساندته ماليا في جهوده لإستضافة النازحين.
و في أعقاب توقعات نمو سلبي للإقتصاد اللبناني، وعدم القدرة على تقليص الحيز المالي، فإن قرار الحكومة المبدئي في ما يتعلق بزيادة رواتب موظفي القطاع العام يشكل تحديات حقيقية. وبما أن الزيادة في مخصصات كلفة المعيشة تهدف إلى التعويض عن تآكل الأجور الحقيقية عبر مرور الزمن. إن التغيير في هيكلية سلسلة وجداول الأجور لم يتزامن مع مراجعة مماثلة لهيكلية المهام وفعالية موظفي القطاع العام في لبنان. فعلى المستوى الإقتصادي الكلي، إن الزيادة الإجمالية في الأجور سوف تضعف الإقتصاد اللبناني من خلال إستعادة ديناميكية ديون غير قابلة للإستمرار، إضافة إلى فرض المزيد من الضغوطات على نظام تثبيت سعر العملة، وإنخفاض في مستوى النمو، وإرتفاع في مستويات البطالة.
وإذا كانت جلسة مجلس النواب قد أنصفت متطوعي الدفاع المدني وأقنعت فجأة هيئة التنسيق النقابية بهدنة إلى الإثنين، في إنتظار إستكمال إقرار اللجان النيابية المشتركة سلسلة الرتب والرواتب مع ضمان تسوية مرضية, الا أن هذا ظلم المستثمرين وأصحاب الودائع برفع الضريبة على الفوائد المصرفية من 5 إلى 7%، لتأمين واردات بنحو 220 مليار ليرة، وفرض فوائد بنسبة 5% على التوظيفات المصرفية، مع فرض ضريبة على الشركات المالية المدرجة في بورصة بيروت بما نسبته 15% والتي سوف ترفد الخزينة بنحو40 مليار ليرة. إلا أن كل تلك التدابير سوف تضعف قدرة الإقتصاد على مواجهة الصدمات وستعيق إستخدام السياسات المالية لمعالجة التقلبات السياسية الدورية.
إن إدخال الإقتصاد بدورة إقتصادية بطيئة ونمو غير منتظم سيدفع بالدولرة من جديد, لأن هذا السلوك سيزيد الطلب على الدولار وسيرفع الأسعار رغم إنخفاضه عالميا. وكل ذلك سوف يتطلب من البنك المركزي بالتدخل وبضخ المزيد من الإحتياطي النقدي لمواجهة إرتفاع الدولار في حالة زيادة الطلب عليه من قبل المستوردين وإرتفاع أسعاره وذلك للحفاظ على قيمة الليرة اللبنانية. ومع كل تلك التدابير العشوائية لتمويل السلسلة التي سوف تشكل مجموعة من العوائق التي تقف حائلا دون ضخ مزيد من الإستثمارات المحلية والأجنبية فى السوق الوطنية أبرزها عدم وضوح الرؤية الإقتصادية وغياب الأمن وعدم قدرة الدولة على إعداد الموازنة العامة. كما أن الضرائب على الفائدة والإكتتاب ستؤدي إلى زيادة الفوائد على القروض والتسليفات مما سوف يؤثر على عمل المصارف بالتجزئة ويكبد المصارف والمواطنين أكلافا تصب في خانة الخسارة.
لذلك فإنه مطلوب البدء بورشة إصلاح إداري ومالي من شأنها أن تحد من الفساد المستشري في المؤسسات الرسمية وما له من تأثيرات سلبية على ميزانية الدولة، لكن تلك العملية الإصلاحية لا يمكن فصلها عن الحاجة الى تعزيز شبكات الأمان الإجتماعية المطلوبة من الدولة وبصورة ملحة.
* خبير مالي ومحلل اقتصادي.
* دكتوراه في المالية الدولية.