بقلم د. ماجد منيمنة - اللواء
من كان يتابع المسلسل الكوميدي السوري «صح النوم»، يتذكر قصة «حارة كل من أيده إله» التي تدور فيها قصة حب «حسني البورزان» و «غوار الطوشة» «لفطوم حيص بيص» حيث أمضى الأخير حلقات المسلسل يدبر المقالب لحبيب «فطوم»، الصحفي العتيد «حسني البورزان» الذي لم يستطع تجاوز سطر مقدمة مقاله اليتيم، وبقي عالقاً مع جملته الشهيرة:»إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا، يجب أن نعرف ماذا في البرازيل».
و قد يكون الشبه الأكبر بأن «فطوم» تمثل هذا الوطن الصغير الذي يتنازع عليه فريقان يمثلان «حسني البورزان» و «غوار الطوشة» و الذي يعاونه «أبو عنتر» الذي تطال يده رقاب من يعانده و يسعى جاهدا و بكل الوسائل إلى قطع الطريق على «حسني البورزان» للوصول إلى قلب «فطوم حيص بيص» بثبات و آمان.
لكل نظام سياسي تقوم عليه الدولة في مرحلة من مراحلها كاريزما خاصة به، ومزاج يمكن التعرف عليه من خلال سلوكه الداخلي مع مواطنيه، وخارجي مع الدول الأخرى، خاصة دول الجوار، التي غالبا ما تكون أول مسرح لإستعراض العضلات، كتحويل مسائل الحدود إلى مشكلة مستعصية الحل، والرجوع إلى التاريخ القريب والبعيد لإيجاد ذرائع لشن الحروب، وقد مد الله بعمر تلك الأنظمة، بدأت بحرب وانتقلت إلى أخرى، الحجج جاهزة والإعلام مستعد للتصعيد. أما على الصعيد الداخلي فالموضوع أشد تعقيدا و مرارة، الأحزاب العسكرية تتصرف وتتعامل مع المواطنين من منطق الشك والإلغاء والتهميش، الجميع أعداء القيادة، ما لم يثبتوا العكس، يستثنى من ذلك فئة أو شريحة أو طائفة تكون عادة محل ثقة القيادة، تلعب دور حامي النظام الداخلي، وتكوّن العمود الفقري للقوى العسكرية.
كثر الحديث مؤخراً في صحف الموالاة والمعارضة عن تردي الوضع الإقتصادي والأزمة السياسية والإقتصادية التي يعيشها الوطن، وتتجلى في ضعف وتأئر النمو الإقتصادي، والفساد المستشري في المجتمع وأثره السلبي في العلاقات العامة بين الناس، والبطالة والغلاء، وضآلة الأجور، وأزمة السكن، وتردي الوضع الإقتصادي الذي يعيشه العمال وذوو الدخل المحدود، و مشكلة اللاجئين. و تتصدر أعمدة الصحف التقارير عن معاناة القطاعين العام و الخاص وخسائر بعض مؤسساتهما, و يجري تبرير هذا النهج بسبب الصعوبات الإقتصادية التي تواجهها الدولة تجاه النهوض بالإقتصاد الوطني في البلاد، والبحث عن مصادر مالية وتوظيفها في مجال الإستثمار الإقتصادي ويتوقف على حلها مستقبل البلاد وتقدمه وإزدهاره. حتى أن الكثير بدأ يردد مقولة حسني البورزان» إذا أردنا ان نعرف ماذا في لبنان يجب أن نعرف ماذا في سوريا» اشارة بأن الوضع العام اللبناني الأمني منه و السياسي والإقتصادي مرتبط إرتباطا و طيدا بالحالة السورية.
في الحقيقة يجب السعي الجدي من أجل تحقيق التنمية الإقتصادية الوطنية، والإستحقاقات التي يطالب بها الشعب اللبناني، ومحاربة الفساد والمفسدين، ووضع حد للتبذير وضغط النفقات غير المنتجة في المجال الإقتصادي وفي المجال المالي، ومعالجة أزمة البطالة المستعصية على الحل حتى الآن، وزيادة الرواتب والأجور لتحسين المستوى المعيشي للعمال و كل هذا يجب أن يكون بمنأى عن الحالة السورية. و عكس ذلك هو إحتدام الصراع بين الطبقة السياسية التي أغتنت من خلال التحالف العلني وغير العلني مع طبقة الدولة الطفيلية من خلال إستغلال مواقعها في قيادة الحزب والدولة و بين المواطن الصالح الذي مل من انتظاره للجمهورية العادلة، ومن جهة أخرى من خلال الفساد المعمم من الأعلى للأدنى حيث أن بعض القيادات السياسية أصبحت من كبار الأغنياء تملك مئات الملايين من الدولارات، وأصبحت مصالحهم الآن تتعارض مع مصالح الطبقة العاملة، وذوي الدخل المحدود. كما تستغل الطبقة الرأسمالية الصناعية الظرف الحالي وأزمة النظام السياسية والصعوبات الإقتصادية التي يعانيها والتي تتجلى بوضوح في ضعف قدرة الدولة على تحقيق التنمية الإقتصادية وإصلاح واقع قطاع الدولة والإستحقاقات التي يتطلبها حل مشكلة البطالة وإيجاد عمل للعاطلين وتقديم مساعدات مادية لهم، وتحسين المستوى المعيشي للعمال وذوي الدخل المحدود, وسياسياً غياب السياسات الأمنية و إنفلات الشارع على غارب المصالح الخاصة، وإنقسام الحركة النقابية و عجزها عن إتخاذ المواقف الفاعلة و المطلوبة.
إن سرقة المال العام من جسم مؤسساتنا الإقتصادية ألحقت ضرراً كبيراً بإقتصاد الوطن. إن الذين سرقوا ولا يزالون يسرقون جزءاً من فائضنا الإقتصادي أدى إلى إضعاف قدرة لبنان على التنمية، وسبب أزمة حادة في عدم القدرة على تلبية حاجات التنمية الإقتصادية ومعالجة أزمة البطالة المستعصية ، الأمر الذي جعل الدولة تبحث عن حلول جزئية إجرائية خاطئة.
لا أود هنا أن أقلل من مسؤولية الطاقم الوطني، لكنني أريد أن أنوه إلى أهمية الإنتباه إلى الخلل البنيوي الذي يحكم طبيعه العلاقات الإقتصادية والتداخل غير السوي وغير العادل بين أبناء الوطن الواحد، و لكن كيف يكون هنالك تحرير ومؤسسات الأمن الوطني تحد، بل تهيمن عليها مجموعات حزبية و يتوسع رجال الأعمال والمحسوبين على هذه القوى في المجالات التجارية والصناعية؟ ونقول بأن المشاريع الوطنية يجب أن تدرج حسب دراسة الجدوى السياسية والإقتصادية، إذ أن سوء التخطيط يولد الغبن الذي يحدث بسببه التجاذب بين أبناء الوطن الواحد مما يهيئ لإستنزاف الموارد المعنوية والمادية للشعب. إن كسر هذه الحلقة المفرغة رهين بمعالجة الشطط في ترتيب الأولويات، الأمر الذي لن يتم في ظل قيادات عبثت بمقدرات الشعب منها الإجتماعية، بل و الإقتصادية التي تمثلت في تجنيب ثروات هائلة تكفي لإعمار البلاد وإسعاد العباد.
لم يعد الخيار ممكناً بين الدولة والمجتمع و خاصة أن تتبنى الأولى سياسة التحرير وتقرير الأخير لمبدأ العدالة الإجتماعية، فالدولة يلزمها إستثمار الموارد المادية لتحقيق طفرة إقتصادية تُخرج المجتمع من دائرة المسغبة، الدولة هي التي تتبنى صياغة العقد الإجتماعي لكنها لا تنشئه، هي التي تهيئ أسس الشراكة بين القطاعين: الخاص والعام؛ و هي التي يفوضها المجتمع المدني المتمثل في القطاعات المختلفة لمناقشة شروط التعامل وتبيان أسس التداخل مع المجتمعات الإقليمية والدولية. بمثل هذا التعاقد الطوعي إستطاعت رواندا وهي الخارجة من حرب أهلية طاحنة أن تحقق أعلى نسبة نمو إقتصادي في القارة الأفريقية، وإستطاعت غانا أن تحقق أعلى نسبة دخل قومي بمعزل عن كل الخلافات الطائفية في البلاد.
إذا كانت الحكومة راغبة فعلاً بالخروج من المأزق السياسي والأزمة الإقتصادية الخانقة التي يعانيها ويعيشها الشعب، فهذا يتطلب إنتهاج سياسة وطنية واضحة وذلك بإطلاق الحريات الديمقراطية لكل الشعب على حد سواء، ومحاربة الفساد والمفسدين الذين هم جزء من الأزمة الوطنية في البلاد, حيث أصبح السلاح غير الشرعي نموذجا لقهر مؤسسات الدولة ووسيلة للاستيلاء على المقدرات الوطنية و على كل هذا أن يتوقف و بأسرع وقت حتى لا يكون الوطن أمثولة حقيقية لحارة كل من أيده إله!!
* خبير مالي ومحلل اقتصادي.
* دكتوراه في المالية الدولية.