- اللواء -
إن الخصخصة مفهوم اقتصادي حديث ظهر من داخل المدرسة النيوكلاسيكية والتي تدعو إلى تصفية ملكية الدولة للشركات العامة التي أعاقت نهوض الدولة بمهامها الأساسية. وهي فكرة رأسمالية تنص على أن دور الدولة الاقتصادي ينبغي أن يقتصر على الرقابة وضبط النظام، وأنه كلما تحرر القطاع الخاص في العمل والاستثمار والاستخدام كلما زاد النمو الاقتصادي والازدهار، وتعرف هذه الفكرة «بالليبرالية الجديدة». وقد ظهر مفهوم الخصخصة في عقد الثمانينيات، وهي من صنع مليتون فريدمان المستشار الاقتصادي للرئيس الأميركي رونالد ريغان وفردريك هايك المستشار الاقتصادي لرئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر. وفي ضوء تبدّل وتطوّر دور الدولة ووظائفها فإننا لا نجد في ظاهرة الخصخصة ما يثير الاهتمام بشكل مكثف في ظل الاقتصاد الحالي، فهل الأمر في الاقتصاد الإسلامي على هذا النحو أم له منحى مغاير؟
إن الاقتصاد الإسلامي إلهي المصدر، وإلهي المبادئ والقواعد، كما يرتكز على النصوص الشرعية واجتهادات علماء المسلمين، وتدبّر تلك المصادر يجعل الإجابة على السؤال المطروح بأن موضوع الخصخصة في الإسلام مغاير لما عليه في الاقتصاد الوضعي. ومنشأ هذه المغايرة هو اختلاف الركائز والمنطلقات، فهي هناك بشرية محضة، وهي هنا إلهية محضة، فلم يُحدّد المسلمون من عند أنفسهم وظائف ومهام الدولة الحاكمة لمجتمعهم، وإنما تم ذلك من قبل الإسلام، وما على المسلمين إلا الفهم والاستنباط ثم الصياغة في صورة مقولات واجتهادات. فإذا قال الاقتصاديون الإسلاميون إن كفالة الحد الأدنى من المعيشة لكل أفراد المجتمع الإسلامي من وظائف الدولة ومهامها الأساسية فإنهم لم يبتدعوا ذلك من عندهم، وإنما هو الاهتداء والفهم والاستنباط من النصوص الشرعية القرآنية والنبوية، وقس على هذا بقية الوظائف والمهام.
إن مهمة الدولة في الإسلام تتجسد في أمر واحد، هو رعاية المجتمع، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته. والرعاية كما هو بارز في اسمها، وكما فهمها العلماء هي منتهى الحفظ والصيانة، وتحقيق أكبر مصلحة ممكنة. ومعنى ذلك أن علماء المسلمين قد تناولوا قديماً وحديثاً هذه الوظيفة الجامعة بالتحليل والدراسة والتفصيل فاشتقوا منها، عملاً بالنصوص، العديد من الوظائف النوعية.
فالدولة مسؤولة عن رعاية مصالح العامة والحفاظ على مقاصد الشريعة. وتحقيق ذلك إنما يكون من خلال العديد من السياسات الاقتصادية وغيرها، مثل السياسة المالية والسياسة النقدية والسياسة التجارية والسياسة الداخلية. وكذلك ما يتعلق بوضع التشريعات التي تكفل حماية الحقوق لأصحابها وفض المنازعات، وكذلك توفير المعلومات والبيانات وكل ما من شأنه إقامة نشاط اقتصادي جيد. بالاختصار إن الدولة مسؤولة عن توفير المناخ الصحي لإقامة نشاط اقتصادى واعد, لأنها مأمورة برعاية مصالح الناس التي هي حقوق للناس عليها. ومن الأمثلة الفذة على ذلك ما فعله سيدنا عمر، رضي الله عنه، مع راعي الغنم عندما رآه يرعى في أرض أقل خصوبة مما ينبغي أن يكون وغنمه عليها فصاح عليه قائلاً: «إني قد مررت بمكان هو أخصب من مكانك، وإن كل راع مسؤول عن رعيته».
ومن الواضح أن تحميل الإسلام للدولة للقيام بهذه الوظائف يتعارض تماماً وفكرة الخصخصة بمفهومها الواسع الذي يمتد في نظر الكثير من المفكرين إلى تهميش دور الدولة في المجال الاقتصادي، وتخليها عن الكثير من مهامها إلى القطاع الخاص، والعودة بها إلى مفهوم الدولة الحارسة، بل إلى ما هو أبعد من ذلك ناهيك عن بقية الخدمات العامة. وذلك لا ينافي القول بأن الإسلام يؤيد ويقرّ ما في الخصخصة من دعوة وعمل على تعديل وتطوير الدور الاقتصادي للدولة، مع الإبقاء عليه فعالاً وقوياً، بل العمل على المزيد من تفعيله وتقويته، بجعله يقتصر على المهام الحقيقية وترك المهام المصطنعة، والتي كانت عبئاً على الدولة وعلى قيامها بوظيفتها في القيادة والإشراف والتوجيه والتنظيم وضبط الأمور والإيقاعات، والانشغال بأمور ليست من اختصاصها، بل هي من شؤون الأفراد والقطاع الخاص، مثل الممارسات المباشرة للأنشطة الاقتصادية العادية، من زراعة وتجارة وصناعة وخدمات، يمكن للأفراد أن يقوموا بها من جهة ولديهم الرغبة في ذلك من جهة أخرى.
إن من يتتبع الاقتصاد الإسلامي يلاحظ وجود مظهر تدخل الدولة في النظام الاقتصادي، فإن النظام الاقتصادي الإسلامي، وإن كان يحمل تشريعاً ينظم فيه الحياة الاقتصادية للدولة الإسلامية، ولكن رعاية منه للظروف المتغيرة والمتبدلة عبر العصور والأزمنة والأمكنة المختلفة جعل من مبادئه السماح للدولة بالإشراف والتدخل للحفاظ على سائر المبادئ الأساسية للاقتصاد الإسلامي وتكيّفها بما يتلاءم مع المتغيرات.
خلاصة القول، وضعت الشريعة الإسلامية عدة ضوابط لتدخل الدولة في أنشطة القطاع الخاص, أهمها: استهداف المصلحة العامة, مع الالتزام بمقاصد الشريعة, وحصر التدخل بمقدار الحاجة وعدم التعسف فيه, خاصة أن من أهم خصائص الإسلام: الثبات والمرونة, حيث الثبات في الأهداف والغايات, والأصول والكليات, بينما المرونة في الأساليب والوسائل, والفروع والجزيئات. وهناك ضوابط شرعية في عملية الخصخصة, منها: ضوابط اقتصادية, ومنها إدارية ومالية, ومنها اجتماعية وأخلاقية, وهذا مُثبت بقول الإمام الشافعي رحمه الله: «إن الناس مسلطون على أموالهم, ليس لأحدٍ أن يأخذها أو شيئاً منها بغير طيب أنفسهم إلا في المواضع التي تلزمهم».
إن النظام الرأسمالي المعاصر يتبنى القول بأن أكفأ دور اقتصادي للدولة أن لا يكون لها دور، وهذا الأمر سبب حقيقي ورئيسي لأزمة النظام الرأسمالي. وهنا نقول أن الاقتصاد الإسلامي لا يترك أمر الاقتصاد كله لقرارات الأفراد، وإنما توجد الدولة مع الأفراد في القرار الاقتصادي. والفقه الإسلامي به ثراء واسع عن دور الدولة وطبيعته وأدواته واستيعابه للتطور. ولذلك نقول إن من مداخل علاج هذه الأزمة هو الأخذ بما يقرره الإسلام بشأن إدارة الاقتصاد مشاركة بين كل من الدولة والأفراد. ولكل تلك الأسباب التي عددناها, إن دراسة متأنية لوظائف الدولة في الاقتصاد الإسلامي تؤدي بنا إلى التحفظ القوي، بل الرفض الصريح لبعض مضامين المفهوم الواسع للخصخصة، وبالذات ما يتعلق بتهميش دور الدولة في المجال الاقتصادي خاصة، والمجال الاجتماعي عامة.
* خبير مالي ومحلل اقتصادي.
* دكتوراه في المالية الدولية.