بقلم د. ماجد منيمنة - اللواء
لماذا غابت هيبة الدولة, ولماذا غابت هيبة الأمن؟ إن ما يشعر به المواطن من خلال المتابعة اليومية، وما يتحدث به الكثير من حوله هو بكل تأكيد فساد مؤسسات الدولة. إن العامي والمثقف لا يختلفان على مقولة أن الدولة فاسدة, لأن كل ما جرى وما طوي من ملفات فساد كان بغطاء سياسي، ولم يعد ينطوي على المواطن المثقل بأعباء الحياة والديون إلا برفع صوته على الأقل ضد الظلم وسوء الإدارة. أما كان بالإمكان السير بالإجراءات العادلة لمعاقبة الفاسد ونصر المظلوم؟ حتماً لم يعد اللعب تحت الطاولة وما كان مخفيا بالأمس، يقال اليوم على العلن وأضحى معروفاً, حتى أن الخط الأحمر أصبح أسود في نظر الكثير, وما شهدته الساحات من اغتيال الأرواح وتدمير الممتلكات وعدم توجيه أصابع الاتهام إلى أحد معروفة اسبابه، وما يظهر من عنف سببه عدم جدية المسؤولين في التعامل مع الجهات الحزبية المخلة بأمن الوطن والمواطن. وبالتالي ظهر العنف نتيجة غياب تطبيق القانون، وهذا ما أوصلنا إلى هذه المرحلة الدقيقة, فالعنف الاجتماعي والتعدّي على القانون هما صنيع السياسيين الممسكين بزمام الأمور والذين يتحكمون بفواصل مقومات البلد.
نعم إن ما حصل من أحداث أمنية على الساحة اللبنانية يؤشر على غياب الدولة، وبتوصيف أكثر دقة، إننا في ظل هذه المنظومة السياسية المهترئة، التي تسمى الدولة، التي لم تفلح في تشكيل مؤسسات مجتمع مدني حقيقية، في ظل السيطرة الحزبية، والنخب الرأسمالية، التي لا تهتم إلا لمصالحها الآنية. إن الوضع أخطر مما نتخيل، فغياب القانون، وتدني المستوى الاجتماعي وغياب التربية المدنية أفرز هذه النماذج التي هي من أمامنا.
الوحدة الوطنية ليست شعارات تُرفع هنا أوهناك، أو محاضرات تلقى في هذه المناسبة أو تلك, بل الوحدة الوطنية ممارسة وتطبيق على أرض الواقع. فالوحدة الوطنية هي حين تندمج وتنصهر كل التوجهات السياسية والانتماءات الدينية في بوتقة مصلحة الوطن العليا. إن الوحدة الوطنية هي أن نخلع عباءتنا المتشحة بسواد هويتنا الطائفية والعشائرية والفئوية ونعيش في بياض ثياب الهوية الوطنية الواحدة التي تشمل جميع من يقيم على أرض هذا الوطن.
فما بالنا اليوم لا تكاد تمضي ساعة إلا وتتحفنا وسائل الإعلام، على مختلف أشكالها، بغثها أكثر من سمينها، ببعض الممارسات المدمرة لهذا النسيج من الوحدة واللحمة الوطنية. ولم يخلقنا الله لوحدنا بتعدد طوائفنا, انما كل مجتمعات العالم تتألف من خليط، بل إن البعض منها شديد التعقيد باللغات والمذاهب، بينما نحن تجمعنا التقاليد واللغة الواحدة.
هذه الممارسات السياسية والعسكرية والطائفية اللامسؤولة ستدمر مجتمعنا وكياننا القومي إذا لم نضع لها حداً، وإذا لم يتداع الحكماء إلى كلمة سواء تحجّم وتكشف من يريدون بالوطن شراً. إن الوطن أهم من الطائفة والعشيرة والتيار والحزب، فكلهم زائلون ليبقى الوطن. إن الوحدة الوطنية المطلوبة هي الانسلاخ التام من أوامر المرجعية الدينية أياً كانت شيعية أوسنية أو غير ذلك, لأن لا مرجعية فوق مرجعية الدستور. وهذا ما سوف يبني الوطن لنحرص عليه ونجتهد لتنمية كفاءات المواطن. فالمرجعية الدينية لا تمثل إلا مرجعية روحانية ومكانها دور العبادة ويجب ألا تتجاوز أبوابها إلا في ما يتعلق بحسن الخلق وأخلاقيات التعامل مع الآخرين.
إن ما يحدث هذه الأيام من ممارسات تقود الوحدة الوطنية إلى مذبح المصالح الشخصية والطائفية, فإن لم يتم تدارك الأمور قبل انفلاتها فاننا سنندم وحينها لن ينفع الندم. ويكفينا فقط ان ننظر إلى العراق لنتذكر جميعاً درساً قاسياً عاشه الأشقاء العراقيون عندما غابت الدولة وانهارت كليا مكوناتها ليفقد الشعب حقه في الحياة الطبيعية والعيش الكريم. ويجب ألا ننسى أن حرب سوريا لا تزال في بداياتها, فلا شك أننا اذا استمرينا على هذه الحال سوف ننجر إلى النهج الضيق من عبث ودعوات طائفية وقتل على الهوية وازدواج الانتماء وحروب طاحنة وتقسيم الوطن على أسس طائفية وعرقية.
لذلك علينا أن نحافظ على وحدتنا الوطنية كما يجب علينا أن نتعالى فوق الجراح وأن نجعل مصلحة الوطن فوق مصالحنا. ان أوروبا منقسمة إلى سبعين شعبة منبثقة عن ثلاث طوائف أساسية هي الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستانتية ومع ذلك فأوروبا توحدت لتصبح تجمعاً سياسياً واحداً. فكيف تحقق لها ذلك وهي مجموعة من الدول التي مزقتها الحروب الطاحنة بين كياناتها السياسية والاقتصادية؟ بل وكانت شرارة الحربين الكونيتين التي انطلقت من هناك فأحرقت الأخضر واليابس في العالم. وحتى لو نظرنا على المستوى الاقليمي الأوروبي فرغم التنوع الطائفي لبعض هذه الدول واشتعال الحروب الأهلية والدعوات الانفصالية، كما في اسبانيا وايطاليا وايرلندا واليونان وغير ذلك، الا أنها وحدت مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية والمالية والأمنية. والسر في ذلك هو فكرة التعايش السلمي ضمن مجتمع مدني يساوي بين أفراد المجتمع الذين يحتكمون فيه إلى مرجعية واحدة هي احترام القانون وحق المواطنة على أساس العدالة الاجتماعية.
أليس الأولى بنا نحن اللبنانيون، ولدين كل ما يوحدنا ويربطنا أكثر بكثير مما يفرقنا, ان نتمثل بما قام به الأوروبيون، ونحن نعلم جميعاً أن دولتنا جمهورية مدنية ومرجعنا الدستور وليس السيد فلان أو الشيخ علان أو غير ذلك. ألا يستحق الوطن أن نبذل أغلى ما نملك من أجله، وان تكون دعوات الوحدة الوطنية ممارسات صادقة لا أقوالاً لا تتجاوز الحناجر وكفانا شراً من بعض هذه الحناجر!!.
هيا أيها الغيارى، هبّوا لنلحق لبنان قبل أن يفوتنا القطار ونسقط في لحظة لا نستطيع العودة إليه!!. العنف الاجتماعي والأخلاقي والفساد المؤسساتي والمالي والإداري ليس وليد اليوم وإنما هو مرآة هذا المجتمع وتكوينه العبثي، وليس للطائفة أي علاقة به إلا بقدر ما يعكسه القائمون عليها, وما تقوم عليه أنظمتها ومناهجها من صورة لمجتمع انحل بقيمته وهانت عليه نفسه ليصبح الولاء والانتماء فيه زيف يتظاهر به أصحاب العقول المتحجرة من أجل المصالح الضيّقة وقصيرة النظر وبعيدة كل البعد عن الوطنية المحقة.
فإذا أردنا الخروج والخلاص والعودة لبر الأمان، فعلى الدولة بقادتها وأبناء جلدتها ومفكريها وبالمخلصين الصادقين، أن تُعيد فكرة الوحدة الوطنية إلى الواجهة من خلال حوار بنّاء لإعادة تكوين نسيج هذا الوطن الموحّد، ولإعادة ترسيخ قيم وأخلاق ومبادئ نرتضيها لبناء وطن واعد ومجتمع متلاحم لنا ولأجيالنا من بعدنا: فهل من مجيب؟
* خبير مالي ومحلل اقتصادي.
* دكتوراه في المالية الدولية.