بقلم د. ماجد منيمنة
يبدو أن تشكيل الحكومة المقبلة يعتبر من أصعب المهمات التي تواجه الوطن، كونها المرة الأولى التي يتم بها تشكيل حكومة بغياب الضغوطات الدولية، وبصورة مغايرة ومختلفة عن سابقاتها، مما يزيد مهمة الرئيس المكلف تمام سلام صعوبة في كيفية الوصول إلى مجلس وزراء, ما بين تطلعات النواب ومزاجية أغلبهم وبين شخصية الرئيس التي تنسجم مع المرحلة المقبلة الدقيقة والصعبة.
ومنذ إطلاق فكرة تشكيل حكومة الانتخابات بدأت المشاورات بين بعض الكتل النيابية والأشخاص الطامحين، أملاً بأن يكون لهؤلاء النواب التأثير في اختيار بعضهم، وما يرتبط بذلك من تحقيق المصالح لأشخاص هذه الكتل النيابية في توزير أصدقائهم ومعارفهم وأقاربهم، مما يساهم في تعقيد المهمة وصعوبة الوصول إلى حالة من التوازن في اختيار مجلس يرضي جميع الأطراف بين المطالبات الشعبية المرتبطة بالإصلاحات السياسية والاقتصادية ومحاربة الفساد.
في كل بلاد العالم يمكن أن تحدث أزمة أو صعوبات اقتصادية، بعضها يرجع إلى أخطاء في التقدير أو فشل في السياسات الاقتصادية، وبعضها يرجع إلى عوامل موضوعية يصعب التحكم فيها، وبعضها الآخر قد يرجع إلى تدافع الإرادات واختلال موازين القوى بين إرادة الإصلاح والإرادات التي تعاكسها.
في حالة لبنان، ومن المنظور الاقتصادي، وبالنظر إلى المدى الزمني القصير، يصعب الحديث عن عامل السياسات الاقتصادية، كما أن الاحتجاج بالعوامل الموضوعية وحدها ليس كافياً للتفسير، إذ لم تصل هذه العوامل إلى درجة تضييق الخيارات المتاحة للتغلب على الأزمة الاقتصادية والخروج من عنق الزجاجة.
بكل وضوح، المسألة توجد في مكان آخر غير السياسات الاقتصادية المنتهجة وغير الظرفية للاقتصاد العالمي. المسألة بالتحديد تكمن في وجود إرادات تعاكس الإصلاح وتستغل صعوبة الوضع الاقتصادي، وتحاول إبطال مفعول السياسات الاقتصادية الناجعة التي تواكبها، وتستغل أوراقاً كثيرة من أجل تعطيل الإصلاحات الكبرى، وأحياناً يتم توظيف الإدارة الرسمية لعرقلة كل هذه الإصلاحات لأجل المنفعة الحزبية الخاصة.
بعبارة واضحة، إنه إذا كان من واجب الحكومة العتيدة اليوم أن تتخذ القرارات الضرورية والصعبة لتجاوز الأزمة، وإذا كانت الحكمة السياسية والنظر الاستراتيجي يفرض عليها في معركتها مع الإرادات المعاكسة للإصلاح أن تتعامل بالمنهجية التي قد تسبب لها مرحلياً بعض الصعوبات، وإذا كانت جيوب مقاومة الإصلاح تنوع آليات التدافع، وتوظف العديد من الأوراق بما في ذلك اللعب بالتوازنات الحزبية، فإن المطلوب اليوم ليس أكثر من لحظة الوضوح السياسي، الذي لا يُبرر فقط الاختيارات والإجراءات التي سوف تتخذها الحكومة، ولكن أن يضع المواطن اللبناني في الصورة الكاملة حتى تكون البوصلة واضحة من أمامه في الانتخابات المقبلة.
صحيح، أن هذه المهمة صعبة، وستكون دائماً صعبة، لأنها قد تشوش على الأبعاد الاستراتيجية في منهجية الإصلاح التراكمي، وقد تعمق بؤرة الاختلاف داخل مكونات الأغلبية، وقد يرتفع سقف الاحتدام السياسي، لكن هذه الاعتبارات كلها لا تمنع من التفكير في صيغة للتواصل والوضوح السياسي مع المواطنين. إن عنوان نجاح أي تجربة للتحول الديمقراطي تكمن في القيام بالإصلاحات الكبرى ومنهجية الفعل السياسي بالحكمة المطلوبة لهزم اللوبيات المقاومة لها حتى ولو كانت جزءاً من التجربة الحكومية نفسها، لكن شرط هذا المنهج ولوازمه الأساسية هو الوضوح السياسي مع الشعب.
إن الوضوح السياسي، والتواصل مع الشعب هنا لا يعني أكثر من الشرح الموضوعي لأسباب أي أزمة، وبيان الخيارات التي كانت متاحة، وتبرير الاختيار الذي قد تلجأ إليه الحكومة، وبيان حساسية المرحلة وطبيعة المخاض الذي تعرفه، ورفع الخلط الذي يسود في الساحة من جراء المزايدات غير المسؤولة.
إن الحكومة المقبلة يبرز دورها بأن تكون حكومة سياسية - اقتصادية، ومهمتها دقيقة وأن تكون قريبة من الشارع تتفهم مطالبه وخياراته، وتسعى لتقريب وجهات النظر بين الأطراف السياسية المتنازعة، وأن تعمل على إخراج الاقتصاد اللبناني من «عنق الزجاجة»، وأن تنجز أضعافاً مضاعفة لمهام الحكومات التي تشكلت في ظروفٍ طبيعية لأنه ليس المهم قياس مدتها الزمنية، بل الأهم السير بالأمور في الاتجاه الصحيح والاستفادة من تقديمات الدعم العربي والمنظمات الدولية لتحسين الظروف المعيشية الصعبة والضاغطة، خصوصاً في ظل استمرار تدفق النازحين السوريين إلى لبنان.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل سيكون مجلس النواب على قدر المسؤولية في الخروج بتصور سليم لرئيس يُحاكي مصلحة الوطن والمواطن، أم سنبقى نعيش الفساد والشلل والمصالح المتناقضة وبالتالي الإضرار بمصلحة الوطن والمواطن؟ وهل نحن أمام انفراج اقتصادي لهذا البلد الصغير أم نحن على أبواب انفجار سياسي كبير قد يكون سببه الأساسي تعنت أصحاب المصالح السياسية الضيقة والاستمرار بسياسة النهب المبرمجة لمقدرات الدولة؟
* خبير مالي ومحلل اقتصادي.
* دكتوراه في المالية الدولية.