ابراهيم الأمين
يعيش اللبنانيون بلا خيمة فوق رؤوسهم. الدولة السائبة تنحل أكثر فأكثر يوماً بعد يوم. لا أحد كان ليتخيل أن تصل الامور الى هذا الحد: رئاسات معطلة من المبادرة ولا إجماع حول قدرتها على الحل. حكومة فاقدة للفعالية ولا تقوم حتى بتصريف الاعمال. معارضة بائسة غير موحدة وأسيرة رهانات خارجية. شارع يضج بالفوضى على أنواعها، فلا مرجعية سياسية له، ولا قيادات تستطيع الادعاء النطق باسمه. عدد غير قليل من العاطلين من العمل صاروا يقومون بأعمال قاطعي الطرق. حشد هائل من رجال الدين ينفخون في نار الفتنة مع كل صلاة. قطاع عام يئن تحت ضغط اللامبالاة الرسمية، وقطاع خاص لا يتحرك لأن أربابه لا يريدون التضحية باليسير من أرباحهم. قطاع مالي ريعي يريد استثمار كل لحظة من أجل بناء ثروات طائلة باسم مساندة المالية العامة للبنان. وبين الطبقات، يرقص من بقي من الطبقة الوسطى على حافة الهاوية، وعينه على العالم البعيد هرباً من الوادي السحيق. وعلى الهامش، حفلة نصابين باسم المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية صاروا مثل صيّادي الآثار في الحروب، ينتقون الضحية بعناية، ويمعنون في القتل الناعم، ويفرون.
هل يقدر لبناني اليوم على الادعاء بوجود قطاع صحي سليم؟ لم يعد شعاراً تحريضياً القول إن الناس يموتون على أبواب المستشفيات. وكل الملحقات من الجسم الطبي المتنقل من سلم السياسة الى سلم التجارة، الى قطاع الدواء، حيث المتاجرة الأبشع باسم التوفير والشطارة اللبنانية، الى قطاع التأمين الذي ينهب المال العام والخاص على حدّ سواء، الى القطاع التربوي، فلا مدارس ولا مدرسون ولا طلاب. يموت التعليم الرسمي يومياً أمام ناظري التعليم الطائفي الذي لم تتركه باسم البحث عن العدالة.
هل يقدر لبناني اليوم على الادعاء أن السياسة شأن رفيع، والكل يرى الكل؟ على الشاشات يتبارى مقدمو البرامج والضيوف في من يرفع صوته بالشتيمة أعلى. وخواء يعوض عنه بالسباب والتحريض، ومسرح عبثي لكن من الصنف السيّئ. وإعلام يعاني ضائقة شعبية إن هو تصرف بقدر من المسؤولية والهدوء. وموت عام. بلد لم يعد يحتاج الى إنتاج أدباء وشعراء وأهل مسرح وفنون، باع إنتاجه من الجيل الماضي الى إمارات وممالك النفط العطشى إلى فكرة تبث الروح في دول خيطت من ظلام.
هل يقدر لبناني اليوم على الادعاء بوجود حياة حزبية مشوقة؟ من يقدر على إقناع ابنه بالانضمام الى تيار عام؟ ومن يقدر على إقناع أهله بأنه سيرتفع شأناً إن انضم الى هذا الحزب أو ذاك؟ وأي حياة نقابية يمكن لها التأثير على سوق المجانين، وها هم الجميع، ودون استثناء، من الدولة وقطاعها الخاص، الى النقابات التقليدية، الى الاحزاب الثورية، الكل يتآمرون لجعل الأسود يملأ بقعة ضوء خافتة أضاءتها هيئة التنسيق النقابية. ومتروك لنا أن نبدي إعجاباً، مجرد إعجاب برجل مثل حنا غريب؟
أما البديل، فهو الجنون الذي يضطر المرء فيه الى التواصل ساعة بساعة مع كل غرف العمليات التابعة للشرطة أو الاحزاب أو شباب الارض لمعرفة حال الطرق. وهو الجنون الذي يجعل الناس تقلق إذا شاهدت حشداً أمام مسجد لأن فيه إشارة الى إشكال. وهو الجنون الذي ترتفع فيه أسعار السماسرة الذين يقضون حاجات الناس الخائفين من الانتقال بين هذا الحي وذاك، أو بين هذه المدينة وتلك. وهو الجنون الذي يدفع الناس الى القيام بأعمال عنف لا مبرر لها سوى الصراخ وإعلان الغضب، بينما يثور الانصار تبريراً ودفاعاً ومطالبة بالنيل من الآخر أولاً، أليست هذه حالة كثر رفضوا إدانة المهووسين الذين اعتدوا بشكل مثير للريبة على طلاب دين بين الشياح والخندق الغميق...؟ هل صار الشيخ أحمد الأسير المثل الأعلى لهؤلاء وليس السيد حسن نصرالله؟
لكن العاصفة التي تجتاح المنطقة لا تعمل وفق حسابات «اللبناني الشاطر». لم يعد هناك من يقيم وزناً لهذا الدجل المستمر على شكل احتفالات وخطب ومهرجانات. وهذه العاصفة تعمل وفق نظام تقلع فيه الأشياء من تحت، فلا ينفع معها خفض الرؤوس، ولا حتى دفنها في الرمال. وهي، وعلى سرعتها التي تدفعها قريباً لزيارة لبنان، سوف تعيدنا الى الزمن الاسود، إلى حيث النار المشتعلة تقضي على كل شيء، لا تبقي بشراً ولا حجراً.
وإذا بقيت القوى الأمنية والعسكرية تعيش دورها الحالي، فهذا يعني أنها سوف تنال فقط الكلام المعسول من قيادات الكذب. وإذا استمرت قيادات هذه المؤسسات تنتظر الترياق من أصحاب السم في مؤسسات الحكم وإدارة الشارع، فسوف تتحول سريعاً الى أداة يتنازعها المتقاتلون، لتكون طرفاً مباشراً في مشهد سبق للبنانيين أن شاهدوه على مدى عقدين، مع نجاح كبير.
وفي الانتظار، يترقب اللبنانيون حلاً، من الخارج على الأرجح، يحمله مستبد لا يعرف الناس بهوياتهم المتنازعة. ومع ذلك، فإن قسوة الموت سوف تجعل الناس تقبل به حاكماً يقدم لهم الموت من دون ضجة أو صراخ. ومن ينجح في العبور من هذا الامتحان، سوف تكون أمامه فرصة الانتماء الى كيان جديد، لن يكون اسمه لبنان.