بقلم د. ماجد منيمنة - اللواء
إن المأزق اللبناني الراهن ليس مجرد عثرة عابرة بل هو مأزق بنيوي، يشمل كل الصعد الاقتصادية والسياسية والثقافية والمالية, حيث تشهد الساحة اللبنانية انقسامات داخلية، لم تحسم من خلالها الأطراف المتصارعة خلافاتها العميقة، بل تأثرت بالتوازنات المحلية والإقليمية والدولية المتداخلة، وبهذا بقي الوضع يحمل في داخله إمكانية انفجار الصراع في أي وقت كان. السياسة هي فن الممكن كما يُروى، والخروج بها إلى دائرة اللاممكن يخلق الأزمات التي تؤثر على مستقبل الوطن، مما يؤدي إلى استفحال التراجع السياسي، وسقوط الوطن في الهاوية.
إن الرغبة في الحصول على الكعكة السياسية كاملة هو الغباء بعينه، لأن الوطن السليم في التعدد القويم، والتعدد القويم يكون في احترام كل فريق للفريق الآخر, لا أن يسعى إلى عزله، وإزاحته من السلطة إذا وصل اليها، وخاصة إذا كان قد وصل بطريقة شرعية. ولا يعقل أن يسيطر فريق واحد على كل مقدرات الوطن مهما بلغت أغلبية هذا الفريق أو سطوته في الشارع، لأن رغبة فريق في إقصاء فريق أو القضاء عليه هو خطر على الفريقين وعلى الوطن برمته.
إن الوطن للجميع، ويجب أن يؤمن أبناؤه بذلك، وهذه هي الخطوة الأولى في بناء وطن واعد، ولا يكون هذا من خلال إطلاق الشعارات والكلام المعسول، ولكن من خلال التطبيق الفعلي، فالمصيبة أن الكلام السياسي في أغلب الأحوال لا يطابق الفعل ولو في القليل، إنما هو من قبيل الاستهلاك الإعلامي، فما أحوجنا إلى الصدق السياسي إذا وُجد في هذه الأيام!!.
إن اختلاف الآراء في السياسة أمر طبيعي، بل هو مصدر من مصادر التنوع الفكري، لكن هذا الاختلاف لا بد أن تكون له وسائل أخلاقية وشرعية، ولا يجب أن يمتد الأمر إلى البلطجة والذم والتحقير والشتائم، أو أن يخرج خط سير الاختلاف إلى التدمير والتخريب، فهذا عين التناحر الذي نشاهد بعض جوانبه في أحداث تترك بصماتها المحزنة على أرض واقع وطننا.
وأسباب التناحر السياسي ترجع إلى تفاقم الأطماع السياسية الشخصية أو الحزبية والقيام بدور المدافع عن الوطن، لاكتساب أرضية سياسية على حساب الآخرين. ومن نتائج التناحر السياسي انتشار الشائعات والأخبار الكاذبة التي يطلقها كل فريق على الفريق الآخر، وكذلك استخدام الكثير من الوسائل غير الأخلاقية في تشويه صورة الآخر، وكل يوم يمر في ساحة التناحر السياسي يوسع الهوة بين الفرقاء، وهذا يؤدي بلا شك إلى تدهور الوطن من الناحية الاقتصادية، وهذا ما نشاهده فعلياً من خلال البورصة المالية, فعندما يحدث الوفاق والتفاهم والمضي قدماًً في تأسيس الدولة الديمقراطية نلاحظ ارتفاع مؤشر البورصة وعندما يحدث العكس من الشقاق والتناحر يهبط المؤشر، وتجد الخسائر طريقها إلينا جميعاً.
أزمة لبنان تنبع من طبيعة الطبقة الحاكمة ومصالحها المرتبطة بالخارج، ومشكلة الاقتصاد اللبناني قائمة على البنية الاحتكارية وضعف السياسة المالية ونهب واردات الخزينة وانفلاش الإنفاق العام التي لا تتناسب مع الرواتب المدفوعة وضمور النمو المتفاوت بين المناطق مع عدم تطوير السياسة النقدية وصمود البنية الاحتكارية للسوق اللبنانية وعدم تطوير الأسواق المالية وتثبيت البنية الاحتكارية التي طالت جميع القطاعات الاقتصادية تحت يافطة الديمقراطية والحرية ناهيك عن الفساد والمحسوبيات. كما ان سيطرة التجار ومرور القطاع الصناعي بمراحل متعثرة، وعدم قدرته على الإفلات من هيمنة المحسوبين, شكل أسباب التردّي الصناعي المتعلق ببنية هذا القطاع مع تفاوت الأداء وصعوبة التمويل وارتفاع أسعار العقارات وانعدام المواصفات والمقاييس ومحدودية القدرة على التصدير وسياسة الإغراق وتخلّف الأنظمة والقوانين والفساد الإداري.
إن الحفاظ على المكتسبات الوطنية المحققة على الصعد المالية والمصرفية وإعادة تصويب مسار الاقتصاد وانخفاض هيكلية الفوائد، يجب ان يحظى بالأولوية في الاهتمام والمتابعة من قبل هيئات القطاع الخاص والعام على حد سواء، خصوصاً وأن الأوضاع السائدة في المنطقة وفي العالم لا تشجع كثيراً على انتظار المزيد من التعاون والدعم على المستويين العربي والدولي ما لم تتطور المعالجات الداخلية, بما يتوافق مع الالتزامات المعلنة أمام المجتمع الدولي. كما أن الشهية لزيادة الإنفاق في ظل الصعوبات القابلة للتفاقم، وعدم صوابية التقدير بأن قدرات تحمل القطاعات الاقتصادية محدودة، لذلك يجب دحض اللجوء إلى أقصر الطرق الضريبية لفرض زيادات الأعباء، بالتوازي مع ما تفرزه الأوضاع المحلية من معوقات كابحة للنمو وللنشاط الاقتصادي، وما تسببه الأوضاع الإقليمية من انعكاسات وتأثيرات سلبية, باعتبار أن لا مصلحة للعمال والموظفين في هذه الزيادة الوهمية التي لن ينتج عنها سوى المزيد من الخسارة لمصادر الدخل وضعف القوة الشرائية وتهميش تصنيف لبنان الائتماني. لذلك على الحكومة اتخاذ الموقف الحاسم من موضوع السلسلة بما يحفظ سلامة الاقتصاد الوطني ويجنبه الانعكاسات السلبية التي لا حصر لها، وإلى عدم العبث بالأمن الاقتصادي الذي بات الحفاظ عليه يضاهي الاستقرار والسلم الأهلي. فبينما تعتمد الدول التي هي في وضع مماثل للبنان وضع برامج إصلاحات اقتصادية وإدارية في مقدمتها خفض الرواتب والأجور والنفقات الإدارية، لذلك فانه مطلوب أن لا تكرر الحكومة سابقة الخطأ الفادح الذي ارتكب عند تصحيح الأجور في القطاع الخاص لتنقله اليوم إلى القطاع العام.
إن فرض الحكومة المزيد من الضرائب المباشرة على المؤسسات الاقتصادية والمواطنين سيولد انفجاراً، لذلك، فإن الحل الأوحد المقبول يكمن في تنفيذ أية زيادة بصورة تدريجية، وأن تمول من خلال وقف الهدر وعدم تحميل الاقتصاد أية أعباء إضافية, ولا سيما أن تكلفة سلسلة الرواتب للقطاع العام وتكلفتها هي غير مغطاة بموارد جديدة، ومسلسل أزمة تقنين الكهرباء وارتفاع تكلفتها وتراجع خدمتها تزداد مع التعقيدات في تأمين مصادر التمويل الخزينة، ولا سيما أن الجمود الاقتصادي في ازدياد مع تراجع حركة الاستثمار وفرص النمو الاقتصادي التي ضربت نتيجة التطورات الأمنية والسياسية داخل لبنان وخارجه. في وقت، تواجه وزارة المالية والحكومة معضلة إخراج موازنة عام 2013، التي تقدر نفقاتها بنحو 28 ألف مليار ليرة، بزيادة نحو 2600 مليار ليرة عن عام 2012، وهذا يحتاج إلى إيرادات إضافية حسب تقديرات المالية بنحو 4000 مليار ليرة، لتغطية العجز نتيجة تمويل السلسة وما بعدها. وهذا حتماً سوف يولد وضعاً مالياً شاذاً ينتج إنفاقاً إضافياً هائلاً لا تستطيع مالية الدولة تغطيته.
من هنا، لا بد من البحث عن حل وسط يجمع ولا يُفرّق، وأن يتنازل كل فريق عن المصالح الخاصة والضيقة من أجل الفوز بالوطن، وهذا سوف يؤدي حتماً إلى تجربة ديمقراطية حقيقية تثمر ما ينبغي أن يكون، وتؤدي إلى احترام عامة الشعب لنخبته، لا أن ينصرف عنها، لأنه في النهاية لا يهم المواطن العادي تلك الصراعات بقدر ما يهمه ما يشاهده على أرض الواقع من تحسين في حالته الاجتماعية وفي تأمين لقمة عيشه. أما إصرار كل فريق على ما في جعبته، فلن ينهي التناحر السياسي، وسوف ندخل النفق المظلم, ولا يستبعد أن تحدث حرب أهلية من جديد بين أبناء الوطن الواحد، بدلاً من أن يكون الاختلاف وسيلة للإصلاح والتقدم بالوطن وتبادل الأفكار، يصبح وسيلة للتخلف والسقوط من خلال التناحر السياسي الذي لو استمر في ظل ظروف الوطن الصعبة ستكون هذه بداية النهاية. ولإنقاذ لبنان من مأزقه الشامل، ننادي بالإصلاح وعلى رأسه الإصلاح السياسي الجذري المدعوم بقانون انتخابي عادل, يحقق مصالح المواطنين. كما نطالب بإدخال الديمقراطية الحقيقية في الدورة السياسية وتحرير الشعب من الانفعالات الغرائزية والعشائرية والطائفية, ليبدأ مشروع التطهير من آفة الفساد التي عششت في عقول وأدراج الموظفين!!!.
* خبير مالي ومحلل اقتصادي.
* دكتوراه في المالية الدولية.