غسان ديبة - (الأخبار الاقتصادية)
"قال كينز: في المدى الطويل كلنا في عداد الاموات. اظن انه لو كان حيا اليوم، لربما قال اننا سنكون في تعداد الضمان الاجتماعي"
من سنين عديدة، يسمع اللبنانيون ان هناك مشكلة في صندوق الضمان الاجتماعي، وكلما حدث شيء، ولو حتى بسيطاً، كاضراب للموظفين مثلا، تستفيق بعض الاصوات من هنا وهناك لمهاجمته.
يتركز الهجوم في بعض الاحيان على العجز المالي الذي يعتري بعض فروعه، وعلى تغطيته من صندوق تعويضات نهاية الخدمة. يسوّق ان ذلك يضع تعويضات المنتسبين في دائرة الخطر ويهدد مالية الضمان... الى اخره من المعزوفة، التي انضمت الى تأليفها وانشادها على مدى السنين، إضافة إلى البورجوازية اللبنانية واقتصادييها، باقة متنوعة ومتناقضة من المؤسسات الدولية ومنظمات المجتمع الاهلي، ومهتمون بالشأن العام، وصولا حتى الى اقتصاديين واكاديميين تقدميين واصلاحيين، مرورا بكل من يظن انّ لديه شيئا يقوله في هذا المجال.
دفاعا عن الضمان الاجتماعي لا بد من طرح ثلاث نقاط.
اولا، يرى هؤلاء ان تغطية عجز فروع المرض والتقديمات العائلية سنويا من صندوق التعويضات امر غير قانوني. ببساطة ان الأمر ليس بهذه البساطة. فالمشكلة اولا هي في المواد المانعة نفسها، اذ اصبح من غير الممكن تطبيقها، فمحاولة جعل بعض الفروع مستقلة ماليا في ظل خفض الاشتراكات امر غير واقعي. وهنا لا بد من الاشارة الى انه من حق الصندوق ان يغطي استنسابيا (عبر خرق نظامه) اي عجز في فرع ما عبر التحويل من الفائض في فرع اخر، لان الامر اقتصادي-اجتماعي لا محاسباتيّ فقط، اي ان الحاجة الى تحقيق التوازن المالي في فروع التقديمات والمرض ليست اهم من النفقات وتلبية الحاجات الانسانية. اخيرا، ان الارقام لا تبرر حالة هلع كهذه تصل الى حدود الهستيريا في بعض الاحيان. فالعجز بلغ مثلا في 2011 نحو 60 مليون دولار، بينما بلغت موجودات الضمان في فرع نهاية الخدمة 5.2 مليارات دولار، وبلغت مداخيل فوائده نحو 320 مليون دولار، واشتراكاته 370 مليون دولار بينما دفع فقط زهاء 175 مليون دولار كتعويضات.
النظام الحالي هو الوحيد الباقي في لبنان لإعادة التوزيع
ثانيا، يلتقي معظم هؤلاء على الحاجة الى استبدال الضمان الاجتماعي بنظام اخر. تراوح الاقتراحات الاستبدالية بين نظام تقاعدي ترسملي يلقي بعاتق الادخار على عاتق العامل والموظف وصولا الى نظام يحول معاش التقاعد الى معاش موحد لجميع المتقاعدين ممول من الضريبة العامة وبينهما اقتراحات انظمة مختلطة. من دون الدخول في التفاصيل، فإن الاقتراحات، وان كان بعضها جذابا ظاهريا وخصوصا لجهة تعميم الضمان التقاعدي على الجميع، الا انها باكثرها تلغي الخاصية التوزيعية والطبقية للنظام الحالي، وهي بدلا من تمويل التقاعد على نحو كبير من الضرائب على اصحاب العمل، تلقي العبء إما على الموظف نفسه أو على النظام الضريبي ككل. وهنا تكمن اهمية النظام الحالي. فبسبب تمويل تعويضات نهاية الخدمة من الراسمال وانتماء مستفيديه الى الطبقتين العاملة والمتوسطة، التي تعمل من أجل الحصول على دخلها، فإنه يمثّل اداة توزيعية من الارباح الى الاجور، ومن الطبقة الراسمالية الى الطبقات العاملة والمتوسطة. وللتشديد فانه النظام الوحيد الباقي في لبنان لاعادة التوزيع هذه، بعدما وضع نظام ضريبي منذ 1993 يحمي الرأسمال بجميع اشكاله من العبء الضريبي التوزيعي.
ثالثا، ان المتباكين على ضحالة تعويضات نهاية الخدمة، التي يستنزفها التقاعد عادة في مدة قصيرة، يجب أن يدافعوا عن اجور اللبنانيين المتدنية المستوى، التي هي في الاصل سبب تدني تعويضات نهاية الخدمة، وبالتالي، في معرض دفاعهم عن المعاش التقاعدي، الاولى بهم ان يطالبوا بزيادة الاجور عبر ربطها بزيادة الانتاجية وتصحيحها سنويا عبر لجنة المؤشر والعقود الجماعية، لكن دفاع البعض عن معاش التقاعد، وعدم دفاعهم عن الاجر، يخفيان الخلفية الطبقية لسياساتهم. فالدفاع عن مشروع معاش التقاعد، الممول من العامل نفسه، او من النظام الضريبي الحالي، سهل لانه لا يأخذ من عوائد الرأسمال، بينما زيادة الاجور تؤدي الى اعادة التوزيع من الارباح الى الاجور، كما انه على المستوى السياسي فان المتقاعدين كتلة هامدة سياسيا ومعاشاتهم قد تبدو وكأنها اعاشة (في بعص الاقتراحات تبدو فعلا كذلك!)، اما الاجراء، فانهم كتلة سياسية كامنة واذا استطاعوا تحقيق مكاسب اقتصادية فانهم سيمثّلون تهديدا لكل النظام القائم. ولذلك نرى الهجوم الشرس للبورجوازية وللطائفيين على تصحيح الاجور في 2011 وعلى سلم الرتب والرواتب أخيرا.
ان الهجوم على الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي هو من بقايا السياسات الاقتصادية حول العالم، وفي لبنان، التي عملت في السنوات الثلاثين الماضية على محاولة تفكيك دولة الرعاية الاجتماعية خدمة لمصالح رأس المال. للذين لم يسمعوا او لا يريدون ان يسمعوا، فإن هذه المرحلة انتهت والعالم يتغير. وهنا نقول لهم اولا ولمنتسبي الضمان ثانيا وللشعب الليناني اخيرا، إن الضمان الاجتماعي سيبقى القلعة المنيعة الضامنة لحقوق الطبقات المتوسطة والعاملة، ولن يلغى ليستبدل بنظام، يؤدي الى التوزيع من الاجور الى الاجور، تحاول اوليغارشية راسمالية-طائفية رجعية ومتخلفة فرضه خدمة لمصالحها ومواقعها التي تعودت تثبيتها منذ 1992 على حساب اقتصاد عصري ومنتج.