الفساد في مرفأ بيروت: المتورطون الكبار يفلتون من العقاب
لا يوضح القرار السبب وراء التأخير في كشف عملية الفساد الكبيرة في المرفأ (هيثم الموسوي)
أصدرت الهيئة العليا للتأديب قراراً وجاهياً بتاريخ 20/4/2015 في قضية المخلّص الجمركي بسام روكز. أهمية هذا القرار لا تتصل بكشف بعض المتورطين بعمليات فساد فوّتت على الخزينة العامّة مبالغ طائلة، بل تتصل بكشف إحدى الآليات التي من خلالها تُهرَّب البضائع دون تسديد الرسوم الجمركية. إلا أنّ هذه الآلية تؤكّد وجود متورطين كبار من داخل الإدارة لم يُلاحَقوا، وهم غالباً يتمتعون بحمايات من نافذين يعطّلون غالباً عمل أجهزة الرقابة
رلى إبراهيم - (الأخبار)
تسلك أي معاملة لإخراج البضائع من المرفأ مساراً محدداً، يبدأ بالاستحصال على إذن جمركي من دائرة الاستيراد والتصدير، وإيصال بدفع الرسوم من دائرة المحاسبة، وبعد ذلك تُنجَز قسيمة الإخراج (تتعلق بالمستوعب الفارغ لضمان إرجاعه) في دائرة المانيفست، وينتهي المسار بالحصول على إذن إخراج مرفئِيّ صادر عن إدارة المرفأ.
هذا ما تفرضه الأنظمة المرعية الإجراء لضبط عملية إخراج البضائع من المرفأ، الذي يعدّ من أهمّ المرافق الحيوية في لبنان وأكثرها درّاً للأموال إلى خزينة الدولة. إلا أن الفساد المستشري في مرفأ بيروت يمكن أن يطيح كل هذا المسار، وفقاً لما أظهره قرار وجاهي صادر عن الهيئة العليا للتأديب بعد تحقيقات ومحاكمات استغرقت أكثر من سنتين في قضية ضد المخلّص الجمركي بسام روكز.
بحسب هذا القرار ومحاضره ومستنداته، تمكّن روكز من طريق مستخدمه إلياس سمعان من القيام بعملية احتيال ممنهجة لإخراج بضائعه من دون أن يضطر إلى دفع الرسوم الجمركية، وبمساعدة كافة الأجهزة في المرفأ طبعاً. واللافت أن سمعان سجّل معاملات روكز في مكتب القبول واستحصل على مستند تصفية وإذن تسليم، ثم عمد إلى تسجيل المعاملات في دائرة المحاسبة دون تسديد الرسوم، حيث بلغ مجموع البيانات المسجلة في هذه الدائرة 165 بياناً جمركياً! ولم يعمد المستخدم إلى تسجيل المعاملات في الباحات وفقاً للأصول، واستحوذ عنوةً على دفاتر قسائم الإخراج والأختام العائدة لعناصر الضابطة الجمركية، فنظّم قسائم إخراج غير صحيحة، أبرزها أمام البوابات لإخراج البضائع من دون دفع قرش واحد.
ما سبق، ليس سوى رأس جبل الفساد المسيطر على مرفأ بيروت، وهو جزء يسير من قصة طويلة اطلعت عليها الهيئة العليا للتأديب المؤلفة من الرئيس القاضي مروان عبود والعضوين علي فقيه وغسان سرحال، حيث استُمع إلى عدد من المراقبين المساعدين والكتبة في إدارة الجمارك وعناصر من الضابطة الجمركية، بعد إحالتهم عليها بناءً على مطالعة مفوض الحكومة الخطية الأساسية رقم 12ق/11/2011 بسبب إخلالهم بواجباتهم الوظيفية. وبعد عدة جلسات محاكمة امتدت من تاريخ 20/12/2012 حتى 29/1/2015.
أصدرت هذه الهيئة قراراً وجاهياً بتاريخ 20/4/2015 من خمس نقاط (العقوبات البسيطة المتخذة بحق المتورطين لا توازي فعلياً فداحة المخالفات المرتكبة وهدر المال العام):
1- الكفّ عن ملاحقة مجموعة من المحالين مسلكياً لبلوغهم السن القانونية وانتهاء خدمتهم (لا تملك الهيئة صلاحية متابعة محاكمتهم باعتبار أن وضعية هؤلاء غير مشمولة بأحكام الفقرة 10 من المادة 59 من نظام الموظفين)، علماً بأنّ من صلاحيات النيابة العامة المالية ملاحقة هؤلاء، وهو ما لم يحصل حتى الساعة.
2- إنزال راتب كل من سهيل السبعلي (مراقب مساعد في ملاك إدارة الجمارك) وإلياس بطرس صدقة (كاتب في ملاك إدارة الجمارك) ثلاث درجات.
أشخاص شاركوا في أعمال أخرى أكثر خطورة لم تجرِ مساءلتهم ولا إحالتهم على التأديب
3- إنزال راتب كل من عناصر الضابطة الجمركية درجتين.
4- الطلب من التفتيش المركزي التوسع بالتحقيق في النقاط والمخالفات المشار إليها في متن هذا القرار عملاً بأحكام القانون رقم 201 تاريخ 26/5/2000.
5- توصية وزارة المالية (الوزير- المجلس الأعلى للجمارك) التثبت من فعالية نظام المكننة المعتمد وانطباقه على القوانين والأنظمة وحسن سير العمل والقواعد المهنية المطبقة؛ وتفعيل عمل مصلحة المراقبة في إدارة الجمارك.
تعتري هذا القرار ملابسات عدّة، فهو لا يوضح السبب وراء التأخير في كشف عملية الفساد الكبيرة في المرفأ وتأخير إحالة الفاسدين على الهيئة العليا للتأديب بتاريخ 10/8/2011، أي بعد نحو عامين على إخراج المخلص الجمركي بسام روكز لمستوعباته بصورة غير قانونية. علماً بأن الهيئة نفسها عمدت إلى تأجيل النظر بالقضية في 9/1/2012 إلى حين اكتمال نصاب الهيئة الناظرة فيها لتبدأ جلساتها مع المحالين عليها بعد 11 شهراً وتنهي تحقيقها بعد ما يقارب عامين.
لا حدود لفساد المرفأ، ولا حدود أيضاً للتدخلات في آلية إجراء التحقيقات من أجل استثناء البعض من الملاحقة، رغم ثبوت تورطهم في هذه القضية. تقول الهيئة في تقريرها إن «أشخاصاً آخرين قد شاركوا وأسهموا وتدخلوا في الأعمال المرتكبة أو في أعمال أخرى أكثر خطورة وتشكل خللاً فادحاً في سير المرفق العام لم تجرِ مساءلتهم ولا إحالتهم على التأديب». وهؤلاء يمكن تقسيمهم كالآتي:
أ- عناصر البوابة الشرقية لمرفأ بيروت، حيث خرجت البضاعة من دون إذن تسليم وإذن إخراج ونسخة عن إيصال القبض. وقد أكد رئيس مفرزة البوابة الشرقية المعاون الأول منير يونس والعريفان سليم أبي عقل وعلي عبد الرحمن، المكلفان بصورة دائمة على هذه البوابة، على واقعة إخراج البضائع بموجب قسائم إخراج فقط، متذرعين بأن «طريقة العمل في البوابات خلال تلك الفترة كانت تجري على هذا الأساس وفقاً لتعليمات رئيس الشعبة العقيد إبراهيم شمس الدين وقبله العقيد فادي أبي كنعان»، ما يستوجب التوسع بالتحقيق لهذه الناحية، وهو ما لم يحصل حتى الساعة. تجدر الإشارة هنا إلى أن آمر الشعبة السابق أبي كنعان نفسه قد نُقل في ما بعد إلى مصلحة المراقبة، وهو من حقّق في هذه القضية!
ب- لا تتوافر في الباحات شروط السلامة العامة والأمان لناحية حفظ مستنداتها ومراقبتها، وعدم وجود كاميرات للمراقبة، فيما رُكِّبت كاميرات مراقبة في أماكن أخرى غير هذا المكان لأسباب غير معروفة، فضلاً عن وضع دفاتر قسائم الإخراج والاختام في مكاتب لا تقفل أبوابها. وقد أقر المراقب الأول خليل الخوري رئيس دائرة المانيفست في حينه بأنه وجه عدة مراسلات بهذا الشأن إلى رؤسائه، فأهملت الإدارة طلبه بصورة مستمرة. على أن ذلك لا يعفي الخوري من المساءلة لجهة الإشراف ومراقبة عمل مرؤوسيه وعدم تنظيم دفاتر قسائم الإخراج، بل يستدعي البحث في مصير المراسلات لتحديد المقصّرين.
ج- دور رئيس دائرة المحاسبة بطرس بو ضاهر ورؤساء الدوائر والموظفين الآخرين، إذ ورد في استجواب الأشخاص المحالين أنّ بو ضاهر ورئيس دائرة الاستيراد والتصدير قد راكما 165 بياناً جمركياً لبسام روكز وأبقياها مفتوحة دون تسديد لمدة تتجاوز سبعة أشهر (تفرض المادة 110 من قانون الجمارك أن توجّه دائرة المحاسبة إنذاراً بعد خمسة عشرة يوماً من تاريخ تسجيل مشروع البيان، فكيف تمكن روكز من مراكمة 165 بياناً جمركياً في الدائرة دون أن تقوم الأخيرة بإنذاره؟ تجدر الإشارة إلى أنّ قسماً من البيانات كان يتعلق بمواد قابلة للتلف السريع مثل البوظة والشوكولا). وما يزيد الشبهة أن روكز سلمهما شيكات بلا مؤونة، ما يدل على استهتاره بهما وبالإدارة، وسأل المحالين عن الإجراءات التي اتخذت في الفترة الفاصلة بين تاريخ إعطاء الشيكات وتاريخ اكتشاف البيانات غير المدفوعة وأسباب عدم شمول التحقيق الإداري كل هذه النواحي المظلمة من القضية. كذلك سُئلوا عن أسباب التأخير في التحقيق لمدة تتجاوز سنتين، ما سمح لبطرس بو ضاهر بالاستحصال على براءة ذمة قبض بموجبها كامل تعويضاته ورواتبه، إضافة إلى شبهة أخرى تتعلق بدور الأخير في حصول روكز على نسخة الإيصالات وإذن الإخراج التي يفترض أن تكون محفوظة في دائرة المحاسبة، الأمر الذي يستدعي وفقاً للهيئة، التوسع بالتحقيق لهذه الناحية.
من جهة أخرى، لا يمكن غض النظر عن دائرة المانيفست التي يلزمها القانون بإجراء جردة كل ستة أشهر على البضاعة المتروكة، إضافة إلى ضرورة إجراء معاملات التشطيب وإقفال البيانات المفتوحة التي لو طُبقت لأدت إلى اكتشاف المخالفات. كذلك لا يمكن القفز فوق اعتراف عناصر البوابة الشرقية بتقصير موظفي الباحات وعناصرها في اكتشاف المخالفات، ما يثبت مسؤوليتهم ومسؤولية رؤسائهم التسلسليين بحسب الهيئة. أما الأهم، فهو إغفال أن آمر المفرزة محمد فخر الدين قد جمع الموظفين وطلب منهم وضع ختم بأسمائهم وعلى نفقتهم الخاصة دون أي أمر خطي أو إداري من الجمارك، ودون أن تتوافر في هذه الأختام أية شروط أمان تمنع تزويرها. وقد استُعملت هذه الأختام في توقيع قسائم الإخراج المدلى بعدم صحتها، ما يقتضي شمل التحقيق لآمر المفرزة.
تبقى المسؤولية الأكبر في هذا السياق على المركز الآلي في الجمارك، إذ تبين من المحاكمات أنه المسبب الأول لهدر المال العام من ناحية عدم قيامه بربط صندوق الدفع ببوابات المرفأ وعدم تضمين قسائم الإخراج أية معلومات تتعلق بالمستوعب، وهو ما أدى إلى استفادة بسام روكز منه لناحية تضمينه أذونات لإخراج مستوعبات لا تعود لها. وأيضاً يتيح المركز استعمال بوليصة الشحن الواحدة لتسجيل أكثر من بيان جمركي، ما يؤدي حكماً إلى إمكانية التلاعب في المسارين الأخضر والأحمر، وبالتالي التلاعب في مسالك إخراج البضائع ودفع رسومها. اللافت أنّ الإدارة أقدمت بعد اكتشاف المخالفات على تغيير طرق العمل كافة على مسار المعاملات الجمركية بسرعة كبيرة وسهولة، الأمر الذي يستدعي السؤال عن عدم استدراكها لهذه النواقص وتوفيرها عناء الوقوع في هذه الإشكالات وما ألحقته بها من ضرر مادي ومعنوي. وهنا يبرز غموض آخر لناحية دور موظفي إدارة المرفأ وشركة التفريغ وكيف تمكن روكز من تحميل مستوعباته بواسطة الشركة من دون قسيمة إخراج من إدارة المرفأ، علماً بأن الموظفين موجودون على البوابات للتثبت من القسيمة وأخذ نسخة عنها لتسديدها إلى إدارتهم ومطابقتها مع قيودهم. فيما تكمن الفضيحة الكبرى في أجهزة الرقابة الداخلية التي لم تتمكن مسبقاً من ضبط المخالفات والخلل الحاصل في سير المرفق العام، ما يطرح علامات استفهام حول حقيقة عمل الرقابة. ويطرح أسئلة أخرى عن مدى انطباق عملها على الأصول لناحية عدم الدمج بين الرقابة والتحقيق من جهة والتنفيذ من جهة ثانية؛ ولا سيما أن المحاكمات الجارية أمام الهيئة العليا للتأديب أثبتت مسؤولية أشخاص شاركوا في التنفيذ وأسهموا في المخالفات، ورغم ذلك تولوا أعمال التحقيق فيها بصورة لاحقة!
«رؤوس بسمنة ورؤوس بزيت»
ثبت من المحاكمات أن لا مسؤولية على الموظفين التابعين لدائرة المانيفست الذين يعملون في الباحات، إذ إنهم لم يسجلوا بضاعة المخلص الجمركي بسام روكز، ولا نظموا لها قسائم إخراج. أما في ما خص عناصر الضابطة الجمركية فقد اعترفوا أمام الهيئة بأن «مستخدم روكز، الياس سمعان، أخذ القسائم من الباحات، ما يدل على أنه لم يزوّرها أو يستحصل عليها من مصدر آخر، وأشاروا إلى إمكانية استغلال الجاني خروجهم من الباحة للمعاينة من أجل الاستحواذ عنوة على هذه القسائم. غير أنهم لفتوا النظر من جهة ثانية إلى أن رؤساء الباحات (سهيل السبعلي والياس صدقة والياس حيدر وميلاد وهبة وصبحي فواز) كانوا دائماً موجودين في الباحات ولا يخرجون منها البتة. علماً بأن حيدر ووهبة وفواز، بالإضافة إلى طانيوس دعيبس وعادل الحاج لم يُحاكَموا لبلوغهم السنّ القانونية، وقد أسهم التأخير في المباشرة بالتحقيقات بخروجهم مثل «الشعرة من العجينة» مع قبضهم لكامل تعويضاتهم. وتتابع الهيئة تقريرها بالتأكيد أنه كان يمكن اكتشاف المخالفات الحاصلة في قضية بسام روكز من خلال تسديد المعاملات وتشطيب البيانات، فيما تكمن الطامة الكبرى في غربلة المحالين على الهيئة العليا للتأديب والاكتفاء بمحاسبة «الرؤوس الصغيرة» وغضّ النظر عن المسؤولية الرئيسية المترتبة على «الرؤوس الكبيرة» من الإدارة إلى رؤساء الباحات والدوائر.
يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر | roulaibrahim@