نبذة تاريخية عن الاتحاد

 


لطالما فرضت البنية الاجتماعية اللبنانية تداخلاً بين الصراعات الطائفية، والعقائدية الحزبية، والطبقية. تداخلٌ حكم تاريخ الحركة العمالية منذ ثورات الفلاحين في مطلع القرن التاسع عشر حتى تشرذم الحركة النقابية مع بداية التسعينيات مروراً بفترة الاستقطابات الحادة خلال فترة الحرب الباردة

رغم غلبة التاريخ الطائفي لعهد الفوضى والفتن الطائفية على الرصد الموضوعي لثورات الفلاحين في القرن التاسع عشر، إلا أن هذه «العامّيات» أسّست فعلياً نواة الحركة العمالية اللبنانية التي لم تتبلور إلا مطلع القرن العشرين، مع تشكّل الوعي الطبقي وتوافر الظروف المؤاتية للنضال العمالي. مرحلة ازدهار تلاشت عام 1946مع بروز الانقسامات الإيديولوجية الحادة التي فرضتها الحرب الباردة، ولم تستعدها الحركة النقابية اللبنانية سوى بعد مخاض طويل (1960 ــــ 1970) نشأ عنه اتفاق جميع أقطابها على اتباع اتجاه وحدوي تجسّد بإنشاء اتحادات على أسس قطاعية. إلّا أن لعنة الطائفية والنفوذ الحزبي وآفة المحاصصة لم تفلت قبضتها عن الجسم النقابي الذي ترهّل وتشتّت منذ عام 1990 ولا يزال ساحة تعرض فيها القوى الطائفية والسياسية عضلاتها خلال فترات الانتخابات، فتتبارز على حساب المبرّر الأساسي لوجودها: المطالبة بحقوق العمال والدفاع عنهم.

عامّيات القرن التاسع عشر

شهد الإنتاج الحرفي تطوّراً ملحوظاً في بلاد الشام، وازدهرت زراعة التوت وإنتاج الحرير في جبل لبنان، إلا أن تبعية الفلاحين لكبار الملّاكين، أصحاب السلطة في مقاطعاتهم، والمدعومين من جيوش السلطنة العثمانية، كانت في تزايد. تفاقمت الضرائب، فعظمت معها النقمة الشعبية التي لم يخمدها موت الوالي العثماني أحمد باشا الجزار، إذ إن خلفاءه كانوا أسوأ منه. اشتعلت في هذه الأجواء سلسلة من الانتفاضات الشعبية، بدأت منذ القرن الثامن عشر في جبل عامل ضد السيطرة الإقطاعية الشهابية، واستمرّت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر لتشمل مختلف المناطق اللبنانية: عامّيتا حمانا، عامّيتا إنطلياس، عامّية لحفد، الانتفاضات في حاصبيا وعكار على الحكم المصري، عامّية عين عنوب.

رغم ترافق هذه الانتفاضات مع نشوء نواة حركة عمالية نامية، فإن الوعي الطبقي كان منحسراً خلالها أمام العلاقات القبلية والإقطاعية والطائفية، وخصوصاً في ظل ضعف حركة التمركز الصناعي وشدّة القمع التي عُرف بها أرباب العمل وضعف الوعي الفلاحي مع ارتهانه للوعي الطائفي. بدا ذلك جلياً في أهم انتفاضات تلك المرحلة وأشهرها: عامّية كسروان التي أدّت إلى تغييرات جذرية وبنيوية كرّسها القانون الأساسي لنظام المتصرفية، وبروتوكول 1861، رغم وقوعها في فخ الطائفية بعد عام من الصمود.

فقد توصّلت انتفاضة الفلاحين في كسروان بقيادة طانيوس شاهين عام 1859 إلى تحرير الفلاحين من سيطرة آل الخازن، وتبنّت شعارات مطلبية جذرية، رغم أنها بدأت كصراع بين مشايخ آل الخازن والأمير بشير أحمد أبي اللمع، قائمقام النصارى الذي استطاع الخازنيون عزله، فاستعان بالفلاحين لمحاربتهم. وكانت النقمة التي يشعر بها الفلاحون من استغلال آل الخازن لهم محركاً أساسياً دفعهم إلى الاستجابة. ورغم «جذرية الانتفاضة» التي طالبت بتكريس المساواة التامة بين الفلاحين والمشايخ في الحقوق والواجبات، فإن هلع القوى المناهضة لها دفعها إلى التآمر عليها واحتوائها تحت شعار «التضامن الطائفي»، وهو ما نجحت فيه: فاصطفاف الأهالي وراء طوائفهم هوالمنفذ الوحيد للقضاء على تحركهم الطبقي.

بعد صمود الثورة الفلاحية لمدة عام، وقع الخلاف بين النصارى والدروز في الشوف، وبدأت رقعته بالامتداد. وتوهّم قادة الثورة الفلاحية أن تضامن القوى الشعبية على قاعدة شعار التضامن الطائفي يمكن أن يؤدي إلى تحرّر فلّاحي باقي المناطق. فإذا بالتضامن الطائفي للفلاحين الموارنة يقود إلى تضامن طائفي مقابل للزعامات الدرزية والفلاحين الدروز. هكذا انزلقت الثورة الشعبية من التضامن الاجتماعي الطبقي إلى التضامن الطائفي (وهو السيناريو ذاته الذي سبق أن حصل عام 1840)، فتقلّص ظل الانتفاضة ودورها أمام المجازر الطائفية لعام 1860.

كانت الرأسمالية العالمية قد بدأت في ذلك الوقت بالترسّخ في لبنان، وكانت الطبقة العاملة اللبنانية في طريقها إلى التكوّن: فقد ظهرت مصانع الحرير التي أنشأها رأس المال الفرنسي، وبدأ العمال يتمركزون أكثر فأكثر في وحدات إنتاجية صناعية.

مرحلة الانتداب

احتفال عمّالي في المبنى القديم لقصر الأونيسكو (أرشيف)بدأت الحركة النقابية تتنظّم عشية الانتداب الفرنسي داخل مصانع الحرير والشركات ذات الامتيازات الخاصة ومصانع التبغ والمرفأ وسكة الحديد وقطاع الطباعة. وتجلّت محاولات التنظيم الأولى على أساس تعاوني بحسب التشريع العثماني المطابق لتأسيس الجمعيات. وفي محاولة منها للتغلغل داخل الحركة النقابية، شجعت السلطات الفرنسية على إنشاء اتحاد عمالي عام 1921، سرعان ما تحوّل إلى حزب سياسي تحت اسم حزب العمال، قاده بورجوازيون ليبراليون حرصوا على توطيد التعاون الطبقي وعلى التفاهم مع سلطات الانتداب. إلا أن تأسيس حزب الشعب عام 1924، والحزب الشيوعي عام 1925، وطرح أول برنامج عمالي في احتفالات الأول من أيار عام 1925، كانت عوامل أفضت إلى انطلاق الحركة العمالية النقابية وبداية نضالاتها التي حصدت بها مكتسبات قانونية (إصدار قانون الموجبات والعقود عام 1932) ورسّخت خلالها الوعي الطبقي لدى العمال، رغم ظهور محاولات انشقاق ذات إيحاء طائفي، مارستها البورجوازية بدعم من سلطات الانتداب التي منحت بعض المرجعيات الدينية تراخيص لإنشاء نقابات خاصة بها. استمر النضال النقابي في مواجهة سلطات الانتداب على المستويين الوطني والاقتصادي عن طريق الإضرابات والمواجهات العمالية التي لقي خلالها بعض العمال حتفه، إلى أن أرغمت السلطة على إصدار قانون العمل عام 1946.

الحرب الباردة

بعدما حاز لبنان استقلاله السياسي، اتجه التطور الرأسمالي نحو اقتصاد الخدمات، وبدأت الرساميل الأميركية تتدفق على لبنان مرافقة مشروع مارشال (برنامج إعادة الإعمار الذي قادته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية لتضمن احتكار الاستثمارات في البلدان التي تمثّل مركز الصراع خلال الحرب الباردة)، وانجرفت الحكومات اللبنانية أكثر فأكثر في مناورات الحرب الباردة. وبعد النعرة الطائفية، جاء دور الانقسامات الإيديولوجية في إضعاف وحدة الحركة العمالية، وفعل مشروع أيزنهاور (الذي تقدم الولايات المتحدة بموجبه مساعدات عسكرية واقتصادية لدول الشرق الأوسط مقابل محاربتها للمدّ الشيوعي) ومعاداة الشيوعية فعلهما في مجال تقويض النشاط النقابي: فقد رفضت الحكومة إعطاء الترخيص للاتحاد النقابي، ومنحته في المقابل لنقابات موالية لها، وشنّت حملة اعتقالات على النقابيين وعلى أعضاء من الحزب الشيوعي.

ومع انتفاضة أيار و«الثورة» على الرئيس كميل شمعون عام 1958، كانت الحركة النقابية قد اتجهت أكثر فأكثر نحو الانقسام والتعددية، إذ توزعت إلى خمسة اتحادات على أساس الانقسام العقائدي بين اليمين واليسار بالمعنى السياسي. ورغم عدم إصابة الحركات المطلبية بشلل تام، فإن فاعليتها تراجعت أمام الخصومة السياسية بين نقابة إصلاحية وأخرى طبقية.

إلّا أن هذه الخصومة زالت خلال العهد الشهابي مع إنشاء المجلس الأعلى للعمال عام 1967 المؤلف من جميع الأمناء العامين للاتحادات النقابية التسعة المرخصة، وبدأ العمل الوحدوي يتعزّز أكثر فأكثر، إلى أن انضمت كل الاتحادات إلى الاتحاد العمالي العام للبنانيين سنة 1970.

تبدو مراحل الازدهار الوحدوية في مسيرة الحركة النقابية اللبنانية استثناءات على درب الجلجلة العمالي. تختلف الأسباب والنتيجة واحدة: تقف وراء الانقسامات عوامل طائفية، عقائدية أو حزبية، يذهب ضحيتها في جميع الأحوال والأزمنة ذلك المواطن الذي يعمل ثماني ساعات في اليوم على أحسن تقدير، ليعود في آخر النهار إلى أسرته وهو بالكاد يستطيع إعالتها.

يسهر ذلك المواطن اليوم أمام التلفاز، منتظراً آخر أخبار المكتسبات العمالية، فيطالعه تقرير عن آخر أخبار تشرذم الحركة المخوّلة الدفاع عن مصالحه: فبين الاتحاد العمالي العام وجبهة الإنقاذ في الاتحاد والنقابات التابعة للشيوعيين، تضمحلّ مصالحه تماماً وتتراجع أمام اعتبارات الانقسام السياسي الحاد.القدرة التمثيليّة الفعليّة للنقابات


قدّرت دراسة أعدّها الاتحاد الأوروبي ومؤسسة فريدريش إيبيرت، عام 2002، عدد المنتسبين إلى جميع الاتحادات التي تكوّن الاتحاد العمالي العام بحوالى 58690 منتسباً من أصل 745760 عاملاً وأجيراً يحق لهم الانتساب، وفقاً لدراسة القوى العاملة الصادرة عن إدارة الإحصاء المركزي. ويستند هذا الضعف في التمثيل الفعلي إلى كثرة الانتسابات الوهمية، ولا سيما تلك المسؤولة عنها الأحزاب المختلفة. وتقترح الدراسة الركون إلى عدد المقترعين في انتخابات هذه النقابات كمؤشر إلى التمثيل الفعلي الذي تبيّن أنه قد لا يتجاوز 3,5 % من عدد الأجراء. يوضح ذلك ضعف القدرة التفاوضية للاتحاد العمالي ما لم يتوافر له دعم سياسي وحزبي. كذلك رصدت الدراسة تزايد عدد النقابات (210 نقابات) بشكل أكبر من تزايد عدد المنتسبين إليها خلال الحرب الأهلية اللبنانية، حيث تأسّست 40% من النقابات بعد عام 1975، لكنها لم تضم سوى 17,2 % من المنتسبين. تحدّد هذه المعطيات مكامن الخلل في الاتحاد العمالي، إذ إن تركيبته باتت محكومة بتوازناتها السياسية الداخلية التي يمنع اختلالها أي اتجاه وحدوي في العمل النقابي، والتي تقتضي معالجتها بإصلاح جذري لتركيبة التنظيم النقابي يرتكز على التمثيل الحقيقي لمختلف الأجراء في جميع القطاعات الاقتصادية.